أوروبا و«الدوامات» المفرغة

إن أزمة اليورو لا تُبدي أية علامات على التراجع. وفي حين كان من المفترض في عام 2012 أن يصبح العام الذي يتمكن فيه زعماء أوروبا أخيراً من الإمساك بزمام الأمور، فإن المشكلات في منطقة اليورو تفاقمت من سيئ إلى أسوأ. فقد امتدت الأزمة اليونانية إلى جنوب أوروبا، ثم تحولت إلى أزمة أوروبية شاملة. بل إن البنوك والحكومات بدأت بحلول نهاية العام في وضع خطط طوارئ تحسباً لانهيار الاتحاد النقدي.
ولم يكن أي من هذا حتميا. بل إن كل هذه الأحداث عكست إخفاق الزعماء الأوروبيين في منع دوامتين مفرغتين.
الدوامة الأولى انطلقت من الدين العام إلى البنوك ثم عادت إلى الدين العام. وكانت الشكوك حول ما إذا كانت الحكومات قادرة على سداد أقساط ديونها سبباً في ارتفاع تكاليف الإقراض إلى عنان السماء وانخفاض أسعار السندات إلى مستويات متدنية. ولكن الأهم من كل هذا هو أن أزمات الديون هذه تسببت في تقويض الثقة ببنوك أوروبا، التي تحتفظ بعديد من السندات محل التشكك. ونتيجة لعجزها عن الاقتراض، أصبحت البنوك غير قادرة على الإقراض. ومع ضعف الاقتصادات نتيجة لهذا، أصبحت التوقعات فيما يتصل بالقدرة على تقليص العجز والديون الحكومية ضئيلة للغاية. ثم انخفضت أسعار السندات إلى مستويات أدنى، الأمر الذي ألحق مزيدا من الضرر بالبنوك الأوروبية.
والآن أوقف البنك المركزي الأوروبي هذه الدوامة المفرغة من خلال تزويد البنوك بالسيولة المضمونة لثلاثة أعوام في مقابل مجموعة واسعة من الضمانات. وبعد اطمئنان البنوك إلى قدرتها على الوصول إلى التمويل، استعادت من جديد الثقة اللازمة للإقراض.
وتبدأ الدوامة المفرغة الثانية في أوروبا من تقليص العجز والديون الحكومية إلى النمو البطيء ثم تعود إلى تقليص العجز والديون. ولا يزال الأمر يتطلب الزيادات الضريبية وخفض الإنفاق العام؛ ولا سبيل إلى تجنب هذه الحقيقة. ولكن تدابير خفض الطلب هذه تعمل أيضاً على تقليص النمو الاقتصادي، الأمر الذي يعني تفويت أهداف تقليص العجز. وهذا يعني أن إعادة عملية تقليص العجز والديون الحكومية إلى مسارها الصحيح تتطلب مزيدا من خفض الإنفاق، وهذا يعني بدوره مزيدا من تراجع النمو، وتدهور أداء الموازنة.
وسيتطلب وقف هذه الدوامة المفرغة تحريك عجلة النمو، وهو أمر يصعب تنفيذه في ظل الظروف الراهنة. فالبيئة الخارجية غير مواتية، والنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لا يزال ضعيفا، ويبدو النمو في الأسواق الناشئة أقرب إلى التباطؤ.
ولنتأمل أولاً جانب العرض. لقد أظهرت الأبحاث التي أجريت على الاقتصاد الأوروبي أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم تعد المحرك لخلق فرص العمل. ولكن المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم تحتاج إلى الائتمان كي تنمو وتتمكن من توظيف العمالة، الأمر الذي يؤكد أهمية الخطوات التي اتخذها البنك المركزي الأوروبي أخيرا لإعادة السيولة إلى النظام المصرفي.
أما تدابير جانب العرض الأخرى فلا بد أن تتخذ بواسطة الحكومات. على سبيل المثال، وافق البرلمان الإيطالي على إزالة القيود المفروضة على ساعات فتح المتاجر كخطوة أولى نحو تحرير قطاع التجزئة. ولكن سائقي سيارات الأجرة والصيادلة نجحوا في مقاومة الجهود الرامية إلى فتح مهنهم وتعزيز مرونة وكفاءة الخدمات التي يقدمونها. وتشكل الحاجة إلى استرضاء جماعات المصالح هذه عقبة خطيرة أمام إعادة تحريك النمو الاقتصادي، لأن الإصلاح الشامل أكثر فاعلية من الإصلاح التدريجي.
إن خفض أسعار الفائدة لن يكون كافيا. وسيتطلب دفع أسعار الأصول إلى الارتفاع وسعر صرف اليورو إلى الانخفاض قيام البنك المركزي الأوروبي بشراء السندات من السوق الثانوية - وليس سندات الدول المأزومة في حد ذاتها، بل سندات كل بلدان منطقة اليورو. أو بعبارة أخرى، سيكون التيسير الكمي مطلوبا.
وفي النهاية، لا شيء مضمون. ولكن أوروبا لا تزال قادرة على الإفلات من دواماتها المفرغة إذا قام الجميع بالأدوار المطلوبة منهم.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي