اقتصادنا في الظل.. سيولة نقدية واستثمار مفقود
تعرّف الأدبيات الاقتصادية اقتصاد الظل بأنه كل الأنشطة التجارية المولدة للدخل التي لا تسجل ضمن حسابات الناتج المحلي الإجمالي تعمداً من أصحابها بهدف إخفائها من حسابات الزكاة والدخل لتفادي الرسوم الزكوية والضريبية، أو حسابات التأمينات الاجتماعية لتفادي رسوم الاشتراكات التأمينية، أو حسابات العمل والعمال لتفادي أنظمة الحدود الدنيا للأجور، أو حسابات الاقتصاد والتخطيط لتفادي الإحصاءات التنموية. يضاف إلى هذه الأنشطة التجارية التداول في السلع والخدمات غير القانونية كالأسلحة غير المرخصة، والمخدرات، والمسروقات، والآثار.
يتميز اقتصاد الظل على الصعيد الدولي بحجمه الكبير وبوتيرة نموه المتسارعة، فيبلغ حجمه على الصعيد الدولي قرابة عشرة تريليونات دولار أمريكي بنهاية 2011، حسب كتاب اقتصادي، بعنوان ''النمو العالمي للاقتصاد غير الرسمي''، صدر أخيرا للاقتصادي النمساوي فريدريك شرايدنر. بمعنى آخر، أن اقتصاد الظل إذا نظرنا إليه على أنه اقتصاد محلي مستقل فإن ذلك يعني أن اقتصاد الظل يعتبر ثاني أكبر اقتصاد دولي بعد الاقتصاد الأمريكي البالغ قرابة 14 تريليون دولار أمريكي، حسب المصدر ذاته.
يتوزع اقتصاد الظل على جميع اقتصادات العالم بمعدلات متباينة. تشير دراسة صدرت منتصف 2010 من صندوق النقد الدولي، بعنوان ''إدارة اقتصاد الظل''، إلى حجم اقتصاد الظل في اقتصادات دول مجموعة العشرين. تشير الدراسة إلى أن معدل حجم اقتصاد الظل في اقتصادات دول مجموعة العشرين بلغ قرابة 22 إلى 23 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي خلال الفترة 2002 ــ2007م. كما تشير الدراسة إلى أن معدل اقتصاد الظل في جمهورية روسيا يعد الأكبر بتمثيله قرابة 48 ــ 49 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي خلال الفترة 2002 ــ 2007م. بينما يمثّل معدل اقتصاد الظل في الولايات المتحدة المعدل الأقل بتمثيله لقرابة 8 ــ 9 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي خلال الفترة 2002 ــ2007.
تقودنا هذه الإحصاءات إلى النظر في حجم اقتصاد الظل في الاقتصاد السعودي. تشير الدراسة ذاتها إلى أن معدل اقتصاد الظل في المملكة كان يبلغ 17.5 ــ 19.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 2002 ــ 2007. كما تشير ورقة عمل أخرى صدرت عن جامعة لينز النمساوية إلى أن معدل اقتصاد الظل في المملكة يبلغ 18.4 ــ 19.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1999 ــ 2005. وإذا دمجنا هذه الإحصاءات نصل إلى أن معدل النمو السنوي لاقتصاد الظل في المملكة يبلغ قرابة 1.63 في المائة خلال الفترة 1999 ــ 2007م. وباستخدام المعدل نفسه نصل إلى أن اقتصاد الظل في المملكة يبلغ قرابة 19.95 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي نهاية 2011، أي قرابة 422,194 مليون ريال باعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 2,150,793 مليون حسب توقعات بيان الميزانية الأخير. رقم كبير إذا نظرنا إلى أن حجمه في 1999م بلغ قرابة 111,060 مليون ريال باعتبار أن الناتج المحلي الإجمالي كان 603,589 مليون ريال نهاية 1999 حسب تقرير مؤسسة النقد العربي السعودي الأخير رقم 47.
يقودنا حجم اقتصاد الظل في الاقتصاد السعودي ووتيرة نموه إلى النظر في أهم القطاعات الاقتصادية في المملكة التي تحتضن أنشطة اقتصاد الظل. وبسبب عدم وجود دراسة على السوق السعودية فإنه من الأهمية الاستئناس بدراسات مشابهة من اقتصادات أخرى. تشير دراسة بعنوان ''اقتصاد الظل 2011 في أوروبا''، صدرت من شركة فيزا العالمية العام الماضي إلى أن قطاع تجارة الجملة والتجزئة، وقطاع الفندقة والسياحة، وقطاع النقل والاتصالات تعتبر أكبر قطاعات تحتضن أنشطة اقتصاد الظل. وإذا سلمنا جدلاً بأن الحال ذاته لدينا هنا في المملكة، فإننا نخرج بالارتباط الوثيق بين أنشطة التبادل التجاري المعتمد على السيولة النقدية خارج المصارف ووتيرة ووجود أنشطة اقتصاد الظل.
تشير التقارير السنوية لمؤسسة النقد العربي السعودي إلى تحسّن إدارة عرض النقود في الجهاز النقدي السعودي. حيث كان النقد الموجود خارج المصارف نهاية 1999، 55,060 مليون ريال. يمثّل هذا المبلغ قرابة 18 في المائة من إجمالي عرض النقود في الجهاز النقدي السعودي. ثم سجّل هذا المعدل انخفاضا تدريجيا حتى وصل إلى قرابة 8.84 في المائة من إجمالي عرض النقود في الجهاز النقدي السعودي نهاية 2010 البالغ 95,520 مليون ريال.
أحد الدوافع الرئيسة في تحسّن الإدارة النقدية التطورات التي حدثت في التقنية المصرفية السعودية خلال العقد الماضي. من أهم هذه التطورات وتيرة نمو النظام السعودي للتحويلات المالية السريعة ''سريع'' ونظام السداد للمدفوعات ''سداد''. ومن التطورات الحالية كذلك قرار وزارة المالية فتح المجال لإصدار تراخيص جديدة لمزاولة أعمال الصرافة وانعكاسات هذا القرار على تأطير الحراك النقدي في الجهاز النقدي السعودي.
وعلى الرغم من جميع هذه الجهود، إلا أن النظر إلى حجم النمو المتوقع خلال الأعوام المقبلة للناتج المحلي الإجمالي وزيادة وتيرة الحراك التجاري المنبثق من هذا النمو يدعونا إلى التأكيد على مضاعفة الجهود نحو جذب أنشطة اقتصاد الظل إلى الاقتصاد الرسمي. مهام ليست باليسيرة تقع على عاتق مجموعة من الهيئات والمؤسسات، فمصلحة الزكاة والدخل في حاجة إلى مضاعفة جهودها لشمول جميع الفئات التجارية في حساباتها للأوعية الزكوية والضريبية، والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في حاجة إلى مضاعفة جهودها لزيادة اشتراكاتها التأمينية، ومصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات في حاجة إلى مضاعفة جهودها لزيادة جودة إحصاءاتها، ومؤسسة النقد العربي السعودي في حاجة إلى مضاعفة جهودها في تقنين أنشطة الحراك النقدي، والهيئة العامة للاستثمار في حاجة إلى مضاعفة جهودها في متابعة تراخيص الاستثمار الأجنبي القائمة، ووزارة التجارة والصناعة في حاجة إلى مضاعفة جهودها لتقنين الأنشطة التجارية في اقتصادات الظل. جهود متباينة التركيز والأولويات بين هذه الهيئات والمؤسسات تدعونا إلى التأكيد على إسناد مهام جذب أنشطة اقتصاد الظل إلى الاقتصاد الرسمي إلى جهة واحدة تبادر وتعمل وفق خريطة طريق لجذب أنشطة الظل بشكل تسلسلي ووفق أهمية النشاط التجاري وأولويته في المشاركة الفاعلة في العملية التنموية السعودية.