رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


عندما تنقلب الموازين!

عندما سحبت الحكومة الأمريكية أخيرا أغلبية جنودها من العراق، اعتبر الرئيس باراك أوباما أن ذلك كان انتصاراً للجيش الأمريكي الذي، كما يدعي، أرسى قواعد الديمقراطية في بلاد الرافدين. وفي الواقع أن الاحتلال الأمريكي لم يُكوِّن ديمقراطية حقيقية، بل تسبب في إثارة طائفية بغيضة، لكن بأي ثمن يا سيد أوباما؟ خروج جنودكم، تحت جنح الظلام، لا يدعو إلى الفخر، وقد جاء قرار السحب مُتأخراً لسنوات عدة. ولم ننس ذلك المنظر التمثيلي في الأول من أيار (مايو) 2003، الذي كان بطله جورج بوش الابن، عندما ترجَّل من الطائرة الحربية التي هبطت على ظهر حاملة الطائرات ''أبراهام لنكولن''، مُعلناً انتهاء (!) المُهمة التي كان قد غزا أرض العراق من أجلها. ولا ندري ماذا كان يقصد السيد بوش آنذاك بانتهاء المهمة والجيش الأمريكي المُحاِرب لم يخرج من العراق إلا بعد ذلك التاريخ بثماني سنوات، بعد أن فقد عدة آلاف من جنوده وعشرات الألوف من الجرحى الذين أصبحوا عالة على بلادهم وخسارة مالية تبلغ مئات المليارات وخلق عداء إقليمي يصعب التعافي منه، بعد أن مُرِّغت سمعة أمريكا في التراب. وعندما فقدت الأمل في خروج مُشرِّف، سلمت السجون والمساجين العراقيين إلى سلطة تُحركها الطائفية وحب الانتقام، مع احتمال أن معظمهم كان قد أدخل السجن ظلما، ولا يهون سيئ السمعة سجن أبو غريب.
أما ما حصل للعراق من تدمير كامل للبنية التحتية وتحطيم للاقتصاد العراقي وقتل وتشريد الملايين من البشر وتفكيك عشوائي لأجهزة النظام، وهو ما أشاع الفوضى العارمة، فهذا ليس في حساب مُجرمي الولايات المتحدة. لكن الموازين عند أمريكا دائماً مقلوبة. فما كانت تُسميه نصرة الشعوب وإقامة الديمقراطية كان في الواقع عملا تدميرياً أو هو تخريبي! والمستفيد الأول والأخير من الخسائر الأمريكية الهائلة، البشرية منها والمالية، والدمار الشامل الذي لحق بالعراق شعباً وحكومة واقتصاداً، هي الدولة الصهيونية في إسرائيل. ولا غرو في ذلك، فالمخطط الرئيس في مقر وزارة الدفاع الأمريكية لغزو العراق في عام، 2003، كان يهودي الديانة صهيوني المذهب، وهو بول ولفتز الذي كان آنذاك مساعداً لوزير الدفاع رونالد رامسفيلد. وهكذا تفعل الصهيونية العالمية عندما تجد المكان والزمان المناسبين لتنفيذ مشاريعها التخريبية. فقد توغلت في الولايات المتحدة حتى النخاع، واستطاعت أن تُسيطر على إعلامها وعلى اقتصادها وعلى سياساتها الخارجية. ولا نبالغ على الإطلاق إذا قلنا إن رئيس حكومة إسرائيل له من النفوذ في أمريكا ما لا يملكه الرئيس الأمريكي نفسه، وهذه أقل ما يُقال عنها إنها مهزلة العصر.
وماذا استفاد الشعب الأمريكي من هذه المغامرات الجنونية؟ لا شيء بطبيعة الحال، سوى السمعة السيئة وكسب كره الشعوب التي يطولها شرهم وعدوانهم. لكن العجب أن تستجيب الدول الغربية لنزوات حكام أمريكا الذين يسيطر عليهم اللوبي الصهيوني، على الرغم من أن لتلك الدول مصالح مشتركة مع دول الشرق الأوسط. حتى إن بعض دول أوروبا، وبريطانيا على وجه الخصوص، شاركوا أمريكا في الهجوم الغادر على العراق، وفي النهاية حصدوا نصيبهم من الخسائر المالية والبشرية وانسحبوا خائبين .. فماذا نتوقع من دول هذه حالها؟
وأخيراً، وبعد أقل من 48 ساعة على الانسحاب الجزئي للجيش الأمريكي والضجة الإعلامية التي صاحبت ذلك، انفرط عقد وحدة العراق، الذي ادعت أمريكا نفاقاً أنها أوثقت عراه! فهلا تخجل أمريكا من تصرفاتها وتدفع ثمن رعونة سياستها التي أدت إلى خراب بلد كان آمناً مطمئنا؟ فقد كان العراقيون أنفسهم أولى بتغيير نظام الحكم في بلادهم دون تدمير لاقتصادهم وقتل وتشريد الأبرياء من بني جلدتهم. ذلك أرحم من التدخل الأجنبي، خصوصاً إذا كان المعتدي من أمثال جورج بوش، المُسَيَّر، وزمرته المتعصبين الذين ليس في قلوبهم أدنى مراتب الرحمة. إن ما حدث خلال الأيام الماضية بين فئتين من طوائف الشعب العراقي يدعو إلى الأسف ويُنذر بانقسام يستحيل إعادته إلى سابق عهده من تلاحم وتعايش وود بين السنة والشيعة، وهو ما يُريده المغرضون. وبصرف النظر عما يدعيه الطرف الذي بدأ بإثارة الفتنة واستغل سلطاته ومركزه لإدانة الطرف الآخر قبل عرض قضية الاتهام على القضاء، فإن اختيار الوقت لم يكن مناسباً ألبتة. وكأن لسان حاله يقول، شكراً يا أمريكا، وصَّلتوا ولا قصَّرتوا! والضحية، بطبيعة الحال، الشعب العراقي الذي أذله وأنهكه الاحتلال الأمريكي البغيض. والآن، يبدو أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ مع بداية عهد جديد يتمثل في خطر اندلاع حرب أهلية طاحنة تأتي على الأخضر واليابس، إن كان قد بقي من الأخضر بقية. وما سيزيد الطين بِلة، التدخلات الخارجية ذات المصالح الخاصة التي يهمها تأجيج الصراع الطائفي في العراق الذي يؤمن لها مدخلاً مريحاً أو ممرا إلى الدول المجاورة. وإذا كانت هناك ذرة من أمل في درء استفحال ظاهرة الخلاف بين الطائفتين، السنية والشيعية، فلن يكن إلا على أيدي العقلاء من الطرفين. لقد شبع هذا البلد الحبيب العريق وروي من المصائب المدمرة التي عاناها خلال تاريخه الحديث وأعادته إلى الوراء سنين طويلة بعد أن كان في مقدمة دول الشرق الأوسط، بما حباه الله من الموارد الطبيعية وتميز أهله بالجد والنشاط والعمل. إن ما يُواجه العراق اليوم لهو ''أم'' التحديات، التي تتطلب من الأمة العراقية مجهوداً جباراً وتنازلاً من جميع الأطراف للحيلولة دون انفلات الوضع والحرص على منع الغوغائية من الدخول إلى معمعة الأحداث وسد الطريق على الأخيار والمصلحين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي