دور الحكومة .. إلى أين؟
يبدو أننا نعيش في طور يتغير فيه دور الحكومة في النشاط الاقتصادي بشكل كبير، سواءً من خلال الإنفاق الحكومي أو من خلال التشريعات المنظمة للنشاط الاقتصادي. هذا الأمر يتطلب أن يكون هناك حذر كبير في صياغة هذا الدور، بحيث لا يؤدي إلى اعتماد مفرط على الحكومة في إدارة النشاط الاقتصادي، ما سيترتب عليه تكاليف كبيرة على الاقتصاد تتمثل في ضعف الكفاءة في إدارة النشاط الاقتصادي، كما يجب ألا يكون هناك في الوقت نفسه إهمال لهذا الدور وإفراط في تحجيم دور الحكومة، والاعتماد على القطاع الخاص في أداء مختلف الأنشطة الاقتصادية.
المملكة مرت بالتجربتين خلال مرحلة الطفرة الاقتصادية الأولى في السبعينيات وبداية الثمانينيات الميلادية، التي شهدت مرحلة التأسيس لقطاعات الاقتصاد المختلفة - وخلال مرحلة ما بعد الطفرة الاقتصادية الأولى في نهاية الثمانينيات والتسعينيات الميلادية. في المرحلة الأولى كان هناك اعتماد كامل على الدولة في تقديم جميع الخدمات الأساسية، بما فيها الصحة والتعليم والخدمات البلدية والكهرباء والمياه، بينما شهدت المرحلة الثانية إعطاء مزيد من الدور للقطاع الخاص للدخول في مجال تقديم الخدمات الأساسية التي تقدمها الحكومة.
المرحلة الحالية تتطلب تقييم هذا الدور، من خلال الفوائد التي حصدها الاقتصاد في مقابل التكاليف التي ترتبت عليه جراء زيادة أو تحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي. فمع زيادة موارد الدولة خلال مرحلة الطفرة الأولى، كان هناك توسع كبير في الإنفاق، ومع الاعتراف بدوره الكبير في تأسيس البنية التحتية الأساسية للاقتصاد، إلا أن هذا التوسع ترافق مع انخفاض كبير في كفاءة هذا الإنفاق، وبالتالي لم تتناسب معدلات النمو الاقتصادي للمملكة مع تلك المعدلات في الإنفاق. في المرحلة الثانية، التي تميزت بانخفاض كبير في إيرادات الدولة، كان هناك توجه كبير لتخصيص الكثير من الخدمات الاقتصادية، لكن مع عدم وجود الحد الأدنى من البيئة التشريعية والتنظيمية الملائمة لذلك، فقد اتسمت هذه العملية بالعشوائية، وعدم جني عوائد حقيقية على الاقتصاد منها في كثير الحالات، مع الاعتراف بنجاحها في حالات محدودة فقط.
في المرحلة الحالية، هناك عودة إلى مراحل الطفرة النفطية الأولى من خلال توسع الدولة في الإنفاق على الكثير من القطاعات الاقتصادية، لكن هذا التوسع الكبير على الرغم من أهميته في توفير الخدمات الرئيسة التي يحتاج إليها المواطن، خصوصاً في مجالي التعليم والصحة، يطرح تساؤلات كبيرة عن كفاءته وإمكانية استدامته في المستقبل. ليس هناك شك في أن من أهم السلع العامة التي يجب أن تقدمها الدولة هي خدمات التعليم والصحة، لكن التساؤل الأهم هنا: كيف يمكن أن نعزز الفوائد التي نجنيها من الاستثمارات التي توظفها الدولة في هذين القطاعين؟ وكيف نستمر في تقديم هذه الخدمات على المستوى المطلوب؟ أي أن هناك جانبين يتعلقان بهذا الأمر، جانب يتعلق بالإدارة والآخر بالتمويل.
من المؤسف أن الكثير من المسؤولين عندما يواجهون بمشكلة في القطاعات التي تقع تحت مسؤوليتهم، فإن أول مبرر يتم اللجوء إليه هو عدم توافر الموارد المالية اللازمة (قضية التمويل)، في حين لا يتم الالتفات إلى موضوع الكفاءة في توظيف الموارد المتاحة لهم (قضية الإدارة)، أو استحداث موارد تمويل جديدة من خلال تخصيص أجزاء من القطاعات التي يديرونها، مع التركيز على التشريع والرقابة في هذه المجالات. في نقاش مع وزير عن استراتيجية جديدة لأحد القطاعات الرئيسة، تطرقت هذه الاستراتيجية إلى كل الجوانب عدا موضوع التمويل. عندما تساءلت عن ذلك، أجاب الوزير بأن الدولة هي من سيتكفل بذلك.
هذا الأمر يشير إلى محدودية في الرؤية لدى الكثير من المسؤولين حول حدود ودور الدولة في النشاط الاقتصادي، وفشل خطط التخصيص في قطاعات اقتصادية معينة يجب ألا يكون الأساس الذي ينسف منهج التخصيص نفسه، لكنه عائد بالدرجة الأولى إلى مشكلة في إدارة وتنفيذ هذا البرنامج. يجب أن نعلم أننا نعتمد بنسبة تتجاوز 90 في المائة في إيراداتنا على مورد ناضب ومتذبذب هو النفط، لذلك لا يمكن أن نبني خططنا واستراتيجياتنا على افتراض استدامة هذا المورد إلى ما لا نهاية له. الدولة استثمرت الكثير من مواردها في البنية التحتية، كبناء المدارس والمستشفيات والطرق وغيرها، وليس في ذلك مشكلة، لأن عوائد هذه الموارد سيجنيها أكثر من جيل، لكن تكلفة تشغيل وصيانة هذه الموارد يجب ألا يتحملها فقط الأجيال القادمة.