الغذامي: أخطاء انتخابات الأندية الأدبية صواب .. وصراعات المثقفين حيوية
يمكن للبعض اعتبار مجموعة الأشياء التي أثارها المثقفون بعد ملتقاهم خلال الأسبوع الماضي عرضا ينتمي لمسرح الواقع، عرض يقدم أداء بالغ المباشرة ويشرك الجميع في صنع تفاصيله، وقد يرى فيه البعض الآخر لوحة تشكيلية متعددة الخطوط والاتجاهات، شديدة التباين في ألوانها، وآخرون قد ينظرون له كما لو كان نصاً من النوع الذي لا يمكن تجنيسه ولكن ملامحه الفنية قد تشي بطبيعة المرحلة، وفي كل الأحوال يملك الجميع حقه وطريقته في مقاربة ''قضية الماريوت'' ضمن مستويات عدة قد يكون من أكثرها تفضيلا قراءة هذا الحدث في سياقه الثقافي العام بين يدي منطلقاته ومؤدياته معاً، وبينما ينسحب الجدل تدريجيا من بهو المشهد، تتجاوز لحظة الهدوء التي تعقب العاصفة مرحلة ''ماذا حدث'' نحو ''لماذا حدث'' لتقف أمام صاحب ''النقد الثقافي'' واضعة على طاولته أسئلة تشغلها الإجابة بقدر ما تستشف في قيمة ضيفها عادة القراءة المغايرة حيال أكثر من ظاهرة ثقافية راهنة.. قراء ''الاقتصادية''، في المساحة التالية يحاوركم البروفيسور عبد الله الغذامي حول كل ما ذكرته سابقاً وأكثر.
تقييم في إطار سلوكي.. فاصطفاف تيارات.. ثم استجابة اجتماعية وإعلامية.. هذه المتتالية صنعت القضية الأبرز في ملتقى المثقفين.. بعيدا عن مخرجاتها وتفاصيلها المتداولة.. كيف لنا تفسيرها في سياق عام؟
هذه المتتالية الثلاثية في تقديري تسلسل منطقي، ما جرى في ملتقى المثقفين بدأ من كلمة تلاها رد فعل بني عليه غضب عام، هذه مراحل طبيعية جدا سببها أن هناك مخزونا في النفوس كان يستجيب وراء ما يحدث لأنه دليل وعلامة على شيء هو موجود أصلا وسابق للحدث، لذلك أعتبر التسلسل الذي صار طبيعيا فهو مبني على سياق ذهني سابق.. وهذا السياق هو الذي صنع شكل الأحداث وتدرجها بهذه الطريقة تحديدا، وربما يحصل حدث آخر ولا يتسلسل بهذه الطريقة بالذات، تماما كما هو الحال في مباراة كرة قدم، قد نجد فريقين يدخلان في منافسة ويكون الحماس وراءهما مشتعلا، بينما قد تجد فريقين آخرين يلعبان المباراة نفسها وربما في الملعب نفسه لكن هذا لا يمثل أي درجة من التفاعلية، في الحالة الأولى يوجد مخزون مسبق يجعل الناس يأتون ويتحمسون ويتوترون أيضا، وهو ما لا يكون موجودا في الحالة الأخرى.
ما حدث في ملتقى المثقفين كان يختزن رؤية تنتظر شيئا ما وحينما جاء هذا الشيء تفجرت ردود الأفعال، وهذا في مجمله جزء من الحيوية الثقافية التي تحدث في مثل هذه المناسبات ولا يقتصر هذا الأمر علينا فقط بل حتى على مستوى الدول الأخرى في الغرب وغيره، أنا أنظر إلى هذه القضية نظرة واقعية مع كل ما فيها من توتر، ولا أعتبرها انزياحا نحو الهامش بقدر ما هي تمثل حالة من تحريك الذاكرة، إنه جزء من واقعية الثقافة وجزء من الصور التي تتشكل عبرها الثقافة.
هل يمكن أن يكون هذا هو شكل الحراك المتوقع من مناسبات وملتقيات تقام ضمن أطر جامدة ورمزية في الغالب، ويحضرها عدد من غير الواثقين بفاعليتها؟
لو تحدثنا على مستوى المنبر، فالمنبر نائم إلا إذا حركته بشيء يثيره، ويمكن تطبيق هذا على كل المناسبات الثقافية على مدى العشرين سنة الماضية، انظر إلى المناسبات التي تثير الجماهير ويحضرها الناس وتثير النقاشات بينهم وانظر كذلك في لحظة أخرى إلى المنبر نفسه والمناسبة نفسها في الأسبوع نفسه وستجد أنه يستضيف فعالية لا تثير أحدا، الأمر يتعلق بشخصية المتحدث، وبالموضوع، وعلاقته مع الجمهور، الواضح في ملتقى المثقفين أن البرنامج كان بعيدا عن ملامسة الشغب الثقافي، كان الناس مدعوين في فنادق الرياض لكنهم لم يجدوا دافعا ليستقلوا الحافلات ويذهبوا إلى قاعات المحاضرات، والسبب أنهم لم يجدوا ما يجعلهم يهرعون ليوافقوا أو يصفقوا أو حتى ليخالفوا ويعترضوا، وهو ما يجعلهم ينزعون إلى تعامل واقعي هادئ موضوعي مع المناسبة، وهذا لا يثير حالة التفاعل التي هي بمعنى الانفعال أو التوتر، وبالتالي تمر المهرجانات مرورا عادياً دون إضافة جديد.
في المقابل هناك حالات من الاحتشاد المؤدلج والمشحون باتجاه معاكس لمنهج مناسبات ثقافية ولعلك كنت شاهدا على بعضها.. هل علينا إدراج هذه الحالات في خانة رد الفعل.. الفاعلة؟
بالطبع هي كذلك.. لأنها مكون ثقافي موجود وله تأثيره.. والمثل الشعبي يقول "الحي يحييك والميت يزيدك غبن".. تظل الحيوية حيوية أياً كانت ولا بد من دفع ثمنها، في مصر مثلا قبل ثورة يناير، كان الوضع الثقافي مشتعلا لوجود تهيؤ سابق يجعل الحوار ساخنا.
من المهم دائما أن تختار الموضوعات التي تثير الرأي مع ملاحظة أن بعضها لا يثير أحدا كما هو الحال في المحاضرات الأكاديمية فهي مفيدة وجيدة وإيجابية ولكن ليست من النوع الذي يصلح لمنبر مهرجان أو ملتقى مثقفين يدعى له ألف شخص، حين تدعو ألف شخص فيجب أن يشعروا أن هناك ما يشبه مباراة نارية تتضمن كروتا حمراء وإنذارات ومواجهة مفتوحة تثير انفعال الجمهور وحماسته، قد لا يتفق البعض مع هذه الفكرة أو يرى أنها تثير القلق وهذا كلام صحيح.. لكن ما هو البديل؟ البديل أن تحدث كل الأمور وتمر بسلام كالنوم تماما.
هل ترى أن للمثقف حالته النسقية الخاصة.. في الوقت الذي تثير بعض القضايا نظرة الجمهور نحوه ككائن آخر منفصم اجتماعيا؟
المثقف جزء من المجتمع، ومن الوهم أن نظن بأنه مختلف عن المجتمع، هذه فكرة سابقة ودعوى باطلة كانت النخبة تدعيها لنفسها، وفي المقابل كان الآخرون يكرسون هذا التصور عندما يصفون النخبة بأنها متعالية ومتغطرسة حتى تبين فيما بعد أن النخبة فكرة وهمية، ونموذجها لا يعدو أن يكون مثل بقية الناس من باعة الخضار وتجار العقار وغيرهم. جميعهم يملكون صفات الإنسان نفسها من حيث المسلك والتصرف مع الرغبات أو المخاوف، لا فرق بين من يمارس أي مهنة وبين من يسمي نفسه بالمفكر، كلهم استجابتهم للتحديات واحدة فقط تختلف العناوين والمفردات اللغوية.
انتخابات الأندية الأدبية جرت أخيرا.. وكان ذلك مصحوبا بمجموعة من النتائج غير المتوقعة من حيث الإشكاليات والتأزمات والاختلافات بين المثقفين.. هل كان تطبيق كهذا يستحق موقفك المبدئي خلال السنوات الماضية؟
بالتأكيد هو يستحقه استحقاقا مضاعفا.. مهما قلنا عن الانتخابات فهي تظل انتخابات وهذا في حد ذاته يكفي، ليس ثمة مشكلة لو تحدثنا عن عيوب تحت عنوان الانتخابات، المصيبة هي بالعيوب التي ليس فيها انتخابات أصلا وحينها يزيد العيب عيباً، نحن الآن دخلنا في التجربة بأخطائها وعيوبها، ومن الممكن أن ننتقد ونصحح هذه الأخطاء والعيوب. الانتخابات أظهرت بشرية البشر، وهذه الأخطاء والإشكالات لم تصنعها الانتخابات بل هي موجودة من قبل، ربما لم تكن معلنة ولا مكشوفة حينها، كانت مغطاة ومتسترا عليها وكان الناس يبدون وكأنهم ملائكة وطيبون ورائعون وراقون، لكن عندما جاء الاحتكاك الحقيقي بانت صفات الناس الحقيقية وهذا أمر طيب لأننا ظهرنا على طبيعيتنا وبشريتنا وظهرت عيوبنا التي لم نكن نراها فصرنا نراها، وهذا طريق ممتاز للتفاعل والحيوية من جهة، وللإقبال على شيء يفيدنا أخيرا من جهة أخرى، ثقافتنا الآن تمر بمرحلة من أفضل مراحلها بسبب الانتخابات ومجيئها، فقد أصبحنا نعيش حيوية ثقافية حقيقية.
في الأسبوع المقبل
- على الوزارة أن تترك الثقافة تحل مشاكلها بنفسها.
- لم أدخل «تويتر» كقائد أوركسترا أو شيخ قبيلة.