صناعة الإحباط واليأس

يحلو للبعض - وهم قلة - ممارسة صناعة جديدة، هي صناعة الإحباط وتعميم اليأس من كل السياسات والمبادرات الحكومية، دون تفرقة بين ما هو إيجابي وواعد من هذه السياسات، وبين ما أثبت فشله على مدى السنوات الماضية. من حق المواطن التساؤل ومن حق الكاتب أن ينقل هذا التساؤل من خلال النقد البنّاء المبني على أسس مهنية، والمدعوم بالتحليل العلمي، لكن ما ليس من حق الكاتب، هو أن يجعل الإحباط واليأس ثقافة تستشري في أوساط الشباب، الذين تعقد عليهم الآمال في بناء مستقبل مشرق لهذا الوطن - بإذن الله.
ومع انتشار الوسائل الحديثة للتواصل الاجتماعي، أصبح التواصل مع القراء والجمهور يحدث بشكل آني ولحظي، ما يفرض على الكاتب والناقد مسؤولية أكبر تتجاوز الرغبات الشخصية في الانتشار وبناء قاعدة جماهيرية عريضة. كُتّاب الرأي والمدونون حاليا أصبحوا ركنا أساسيا من أركان التصحيح والإصلاح السياسي والثقافي والاقتصادي، الذي يعيد الآن تشكيل المجتمعات، خصوصا العربية منها. لكن الانسياق الشعبي وراء هذه الوسائل الحديثة للتواصل الاجتماعي يجب ألا يوقِع الكُتّاب في فخ التنافس المحموم على استقطاب الجماهير، من خلال تبني منهج الإحباط واليأس، طريقا سريعا للنجومية في العالم الافتراضي. هذا لا ينفي أن من حق كل كاتب وناقد الاستفادة المشروعة من هذه الوسائل، لكن هذا لا يحرره من المسؤولية الأدبية والأخلاقية التي تفرضها عليه الممارسة المهنية الإعلامية.
الاقتصاد من المجالات الرحبة لممارسة صناعة الإحباط من البعض، وقد برز ذلك أخيرا في الاستجابة السلبية لكثير من المحللين والناقدين الاقتصاديين لخبر إعلان الميزانية، التي صدرت قبل أقل من أسبوعين. ففي حين كانت الأرقام تاريخية وإيجابية بكل المقاييس، مارس البعض مهمة التقليل من هذا الإنجاز الذي يفترض منا الشكر والحمد والثناء للمنعم - عز وجل. برزت الاستجابة السلبية أيضا في ركوب بعض الكتاب موجة النقد غير الموضوعي لبرنامج حافز، دون استناد إلى منطق اقتصادي صحيح. برزت أيضا هذه السلبية في مطالبة البعض التي لا تستند إلى منطق رشيد بوضع حد أدنى لرواتب المتقاعدين يتجاوز الحد الأدنى لرواتب موظفي الحكومة الذين هم على رأس العمل.
هذه السلبية تكون في جزء منها نابعة من الرغبة في الاستقطاب الجماهيري؛ ما جعل البعض يخرج علينا بنظريات اقتصادية جديدة. أحدهم خرج بنظرية عدم الحاجة إلى مراكمة الاحتياطيات، ولم يسأل نفسه لماذا تعمد كل من الصين واليابان - ثاني وثالث اقتصادات العالم - إلى ذلك على الرغم من تنوع اقتصاداتها. لم يتساءل عن دور هذه الاحتياطيات في تحقيق الاستقرار المالي والنقدي، وفي توزيع منافع وعوائد النفط على الأجيال، ودورها في تخفيف آثار تذبذب إيرادات أسعار النفط على مستويات الإنفاق العام.
فيما يتعلق ببرنامج حافز فقد اختلط على الكثيرين تعويضات البطالة التي تعتبر جسرا إلى الوظيفة، وبين الضمان الاجتماعي الذي يوجه لمساعدة الأسر والأفراد المحتاجين. قد نختلف على موضوع كفاية الضمان الاجتماعي، لكن يجب أن نتفق على الأقل على هدف كل برنامج. مطالبات البعض - مع الأسف - تريد أن تحول برنامج حافز إلى ضمان اجتماعي يشجع على التقاعس عن العمل، بدلا من حفز الناس إليه. أضف إلى ذلك أن من يناقش موضوع كفاية مكافأة حافز يتناسى عناصر أساسية عدة لتحديدها، من أهمها ألا تكون حافزا للتقاعس عن البحث عن عمل، وأن دعم الدولة للمواطن لا يقتصر على السنة الواحدة التي حددها برنامج حافز، بل يشمل ثلاث سنوات أخرى (سنة تدريب على رأس العمل وسنتين دعم توظيف).
وأخيرا فيما يتعلق بزيادة الحد الأدنى لرواتب المتقاعدين إلى أربعة آلاف ريال، فإن تنفيذ ذلك دون أي ضوابط، سيعني أن أي موظف يعمل حاليا ويتسلم ما يعادل هذا المبلغ أو أقل، سيجد أن من المناسب له اللجوء إلى التقاعد على الرغم من قدرته على الاستمرار في العمل. أي أننا بشكل مباشر نعطي القادرين على العمل إعانة مادية للتقاعس عن العمل، وهذا يرتب أعباءً مالية على نظام التقاعد سيتحمل عبئها المكلفون حاليا. ولو اقترح أن يقوم الضمان الاجتماعي بتغطية الفرق بين الراتب التقاعدي وحد أدنى من الدخل يضمن للمواطن عند بلوغ سن محددة، لكان الأمر أكثر قبولا من الناحية المادية والمنطقية.
هذا لا يعني أنه لا يجب مناقشة السياسات الحكومية واقتراح الحلول البديلة لها، بل إن ذلك يجب أن يأتي في إطاره الصحيح المستند إلى تحقيق مصالح المجتمع، وفي الوقت نفسه تحليل التأثيرات المختلفة لتلك السياسات، لا أن يكون ذلك مستندا إلى الرغبة الشعبية الجامحة فقط في تحقيق ذلك. هذا المنهج - مع الأسف - يشغلنا عن ممارسة الدور المهم للناقدين وكُتّاب الرأي في مناقشة قضايا أساسية كالبطالة، والإسكان، ومحدودية توافر الأراضي، واحتكار الأنشطة الاقتصادية المختلفة، ومحاربة الفساد، وتحقيق العدالة في توزيع الموارد بين الأجيال، وزيادة كفاءة القطاع الحكومي، وإصلاح قطاعي الصحة والتعليم، وغير ذلك من المشكلات المزمنة التي تواجه اقتصادنا ومجتمعنا حاليا.
مناقشة هذه القضايا يجب أيضا ألا تغفل ما تقوم به الدولة حاليا لحلها، بما في ذلك الاعتمادات الكبيرة المخصصة لها في موازنة الدولة الحالية، وما تعتزم الدولة القيام به مستقبلا، وأن تتسم هذه المناقشة بالموضوعية بعيدا عن التكلف في التطبيل والإمعان في الخصومة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي