التسامح.. كيف نفهمه ونقيمه ونحن ندخل عام 2012؟
هذا أول إطلال لهذا العمود ونحن ندخل عام 2012. وكثير من الكتاب والصحف والمجلات والمواقع الإعلامية تسرد بإسهاب أحداث العام الماضي مع قوائم بأكثر الناس تأثيرا وأكثر الناس خسارة أو ربحا.
وبما أن النهج الذي أتبعه في هذا العمود منذ نشأته يركز على المسائل الفكرية، ارتأيت أن أنقل للقراء الكرام رأيا عن مفهوم فكري حيوي لنا كبشر ــــ ألا وهو التسامح ــــ وما حدث له في عام 2011 الذي انقضى.
أرى أن أكبر خسارة لحقت بالبشرية بصورة عامة وبالعرب والمسلمين بصورة خاصة كانت غياب تطبيق هذا المفهوم وترجمته على أرض الواقع رغم أن الشرائع السماوية ــــ من يهودية ومسيحية وإسلامية ــــ والشرائع الوضعية والدساتير البشرية تشير إليه بآيات بينات ونصوص واضحة.
والمفاهيم الإنسانية مثل السماحة والتسامح ليست صعبة التعريف، ولا يخشى من تعريفها إلا أصحاب الضغائن والنيات غير الحسنة. وغالبا ما يحدث هذا من خلال تهميش ما تحثنا عليه من فضائل نصوصنا المقدسة ودساتيرنا الوضعية والتشبث بمسائل أقل أهمية لحياتنا المعاصرة بحجة أن النص ذكرها.
وإن أخذنا التسامح، مدار نقاشنا اليوم، لا أظن أننا سنختلف على تفسيره رغم تباين توجهاتنا الدينية والمذهبية والسياسية والفكرية. وكذلك لا أظن أننا سنختلف على أنه واحد من أبرز المفاهيم الإنسانية السامية.
التسامح معناه أن ما لد ي صحيح وأنا أؤمن به ومستعد للدفاع عنه بيدي وبلساني وقلبي. ولكن في الوقت نفسه أؤمن أن ما لدى الآخرين أيضا صحيح ولهم الحق في الدفاع عنه بيدهم ولسانهم وقلبهم. وقد نحتاج إلى أن نضع خطا بعض الأحيان تحت كلمة "صحيح" لأن ما أراه أنا "صح" أو "خطأ" قد يكون في جزء منه مسألة نسبية.
وانطلاقا من هذا التعريف لا يحق لي أن أستخدم العنف لتغيير ما يؤمن به الآخر أو الاعتداء على ما لديه ما دام لا يؤثر سلبا فيما أؤمن به وما لديّ. وهذه النظرة المشتركة للحياة تجعلني، لا بل تحتم عليّ، أن أقبل الآخر وأتحدث معه وأحترم خياراته وأتعامل معه وفي الوقت نفسه أقف على مسافة معينة كي لا أكدّر ما لديه من مفاهيم وتقاليد طالما أنه يبادلني المشاعر نفسها.
وهنا يأتي دور الأخلاق لأن الأخلاق تختلف باختلاف الشعوب والدول والمجتمعات. مفهوم الأخلاق لدى المجتمع السعودي المتدين والمحافظ يختلف اختلافا جذريا عن مفهوم الأخلاق لدى المجتمع السويدي، غير المتدين والمنفتح، ولكن لا يجوز للأول أن يفرض خياراته على الثاني والعكس صحيح.
بيد أن المسألة لا تنتهي هنا. يورجن هبرماس، الفيلسوف الألماني المعاصر الذائع الصيت، يتحدث عن سياقات إنسانية عامة، التي يجب ألا تعارضها الأخلاق، أي أن نجعل الأخلاق مطية لانتهاكها. خذ مثلا التعذيب الجسدي وانتهاك الحقوق الأساسية للإنسان.
أترك تقدير المدى الخطير الذي وصل إليه البشر في هضمهم وانتهاكهم للتسامح كمفهوم سماوي ووضعي في عام 2011. وما حدث في أمصار العرب والمسلمين لخير دليل على ذلك وكثير منه وقع على أيدي العرب والمسلمين أنفسهم.
كيف حدث ذلك وقرآنهم وسنة نبيهم يحثانهم على قبول الآخر المختلف عنهم وأن الاختلاف سنة إلهية عليهم قبولها؟ هذا سؤال أترك جوابه للقارئ الكريم.