صغيرات جدة يدفعن ثمن إهمال الكبار
انتهت اللجنة الخماسية المكلفة بالتحقيق في حريق مدرسة براعم الوطن في مدينة جدة، من إعداد التقرير النهائي عن الحادث. وأوضح المصدر أن اللجنة عكفت خلال الأسابيع الماضية على إجراء تحقيقات موسعة شملت إداريات ومعلمات، حيث تم الاستماع إلى أقوال أكثر من 60 من منسوبات المدرسة، إضافة إلى مالكتها، والطالبات الخمس المتهمات، وفرق الدفاع المدني التي باشرت الحادث، وبعض شهود العيان. وخلصت اللجنة إلى عدد من النتائج من أبرزها ما يلي:
1 ـ التأكد من تورط خمس طالبات في المرحلة المتوسطة تراوح أعمارهن بين 12 و15 سنة في أسباب الحريق بعد اعترافهن شرعا بأنهن أحرقن مجموعة من الأوراق في بدروم المدرسة بصورة عبثية بهدف اختبار جرس الإنذار.
2 ـ تبرئة الدفاع المدني من تهمة التأخير، حيث إن الفترة الزمنية التي استغرقها رجال الدفاع المدني كانت قرابة ثماني دقائق من لحظة تلقي البلاغ حتى مباشرة الفرقة عملها في الموقع.
3 ـ اتضح للجنة أن تدخلات بعض الفضوليين الذين تواجدوا في موقع الحادث ونداءاتهم للمعلمات والطالبات برمي أنفسهن من النوافذ أسهمت في حدوث بعض الوفيات والإصابات.
4 ـ وجود أخطاء فردية من بعض العاملات في المدرسة تمثلت في سوء تصرفهن في التعامل مع الحادث خلافا لخطط الإخلاء التي تم تدريبهن عليها.
5 ـ تأكدت اللجنة من توافر وسائل السلامة ومخارج الطوارئ في المبنى، وسجل سلامة صادر من الجهات المختصة يؤكد سلامة المبنى إنشائيًا وملاءمته كمبنى مدرسي.
ونريد هنا أن نلقي الضوء على أهم بنود هذا التقرير وأبرز ما جاء فيه. في البداية نريد أن نقف عند جملة ''تم تبرئة الدفاع المدني ...'' وكأن التقرير والتحقيق واللجنة قد أعدت بهدف تبرئة الدفاع المدني، ولسان الحال يقول ''يكاد المريب أن يقول خذوني''! فهل الدفاع المدني هو الجهة الوحيدة ذات العلاقة بهذا الحادث؟ أليس للتربية والتعليم دور في تفاقم الكارثة؟ أليس لمالكة المدرسة مساهمة في الأزمة؟ وماذا عن مديرة المدرسة والمعلمات وغيرهن؟ ثم منذ متى والدفاع المدني يحاسب وتتبع خطواته؟ ولا ندري بالضبط ماذا تريد اللجنة الخماسية؟ هل كان الدفاع المدني موضع شك وتريد اللجنة أن تتأكد؟ أم أنه (الدفاع المدني) متهم أصلا وتريد إثبات العكس؟ فإذا كانت الأولى فعلى اللجنة أن تقوم بالتحقيق في السجل الطويل والأداء المتراخي في قضايا سبقت كان الدفاع المدني السبب الجوهري في تفاقمها وزيادة ضحاياها. السؤال الآخر لو ثبت تورط الدفاع المدني في كارثة مدرسة جدة فهل ستتجرأ اللجنة وتنشره للرأي العام، ولو فعلت فهل سينال المقصر جزاءه؟
نعود للتقرير ونقول إنه بعد أن أخرجت اللجنة الدفاع المدني وبرَّأته مما يقولون أظهرت بكل فخر وبنشوة النصر الأطراف المتورطة في الكارثة والجناة العابثين بالأمن على أنهن بضع فتيات صغيرات يلعبن بالدمى والأوراق ويشعلن النيران في بهو المدرسة وكأن البهو يقع في غرب المدينة والمدرسة في شرقها. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: هل كانت الطالبات وحدهن في المدرسة في ذلك اليوم المشؤوم؟ أين منسوبات المدرسة من معلمات ومشرفات وإداريات وعاملات، اللاتي قدر عددهن حسبما نشره التقرير بأكثر من 60 عضوة. 60 عضوة في المدرسة ومئات الطالبات ولم يلحظن النيران وهي تشتعل والدخان وهو يفوح من بهو المدرسة؟ هل تريد اللجنة أن تقنعنا بأن هذه الكارثة بكل تعقيداتها وفظاعتها وضحاياها كان سببها صغيرات يلعبن بالنيران في غفلة من الزمن دون أن يراهن أحد؟ أتمنى أن أصدق!
الأمر أيها السادة أكبر وأعقد مما ذكره التقرير، ويجب ألا ننظر إليه بهذه السطحية وألا نتهور ونزج بالفتيات الصغيرات في كارثة نحن من صنع آلياتها. إن حريق مدرسة براعم الوطن نتيجة طبيعية للفساد الإداري، الذي أفرز قيما وعادات أصبحت جزءا من الثقافات التنظيمية لأغلبية مؤسساتنا مثل الإهمال، والأمن من العقاب، وغض الطرف عن القوي ومعاقبة الضعيف. فها هو التقرير بين يدينا يخرج التربية والتعليم والدفاع المدني وإدارة التربية والتعليم في المنطقة ويقحم الفتيات الصغيرات.
أتمنى أن ننظر إلى الأمر بعقلانية أكثر وألا نفتش عن أوهن الأركان فنتكئ عليه كي نبرر أفعالنا ونرمي عليه إهمالنا ونقنع أنفسنا بأننا نسير في الطريق الصحيح. الأمر في رأيي أكبر وأعظم من عبث الفتيات الصغيرات في بهو المدرسة، إنه نتيجة طبيعية لإهمالنا وعدم محاسبة المقصرين فينا. أتمنى أن تكون هذه فرصة نراجع فيها ذاتنا ونقيم فيها أداءنا ونرى فيها أنفسنا، فعيب علينا أن نلقي باللوم على الفتيات الصغيرات كي نثبت أن مؤسساتنا تمارس عملها بكل مهنية.
وقبل الختام نريد أن نقف مع صغيرات جدة حتى لا يصبحن كبش فداء، ونود من الجهات المعنية بالطفولة، وفي مقدمتها جمعية حقوق الإنسان، أن تأخذ على عاتقها مهمة الدفاع عن فتيات براعم الوطن فقد وجدناها غائبة عن الحادثة. نريدها أن تمارس مهامها وتحمي الطفولة من أن تستغل براءتها لتصفية الحسابات والهروب من المسؤوليات. تتحفنا جمعية حقوق الإنسان بمواعظها عن حقوق الطفل وضحايا العنف ضد الأطفال فنحن ننتظر منها تفعيل تلك المواعظ على أرض الواقع وهذه الفرصة ماثلة أمامها.