ضعف الشفافية والمساءلة وانعكاساته على الإقراض الرأسمالي

التمويل مثل الأكسجين بالنسبة للمنشآت الاقتصادية، وبقدر سهولة حصول هذه المنشآت على التمويل بقدر ما تنشط في تحقيق أهدافها من جهة إنتاج الخدمات أو السلع الملبية للطلب ومن جهة تحقيق الأرباح المنشودة للمؤسسين، والعكس صحيح إذ يتدهور حال الكثير من المنشآت حال توقف التمويل أو شحه كما هو الحال بعد الأزمة المالية التي وقعت أواخر عام 2008.

بكل تأكيد تدرك مؤسسة النقد العربي السعودي في بلادنا هذه الحقيقة وتدرك تماما أن شح آليات وبدائل التمويل تحد من معدلات نمو النشاط الاقتصادي في بلادنا وبالتالي تخفيض معدلات توليد الوظائف، كما أنها تدرك أيضا أن البنوك ستقرض ودائعها ـــ حسب النسبة المقررة ـــ للأفراد الذين في معظمهم يستخدمونها لأغراض استهلاكية، وبالتالي فهي تشجع الاستهلاك على حساب الإنتاج، ورغم هذا الإدراك وحسب الكثير من المديرين التنفيذيين لشركات متوسطة وكبرى فضلا عن الصغرى يشتكون مر الشكوى من شح البدائل التمويلية وتعسف البنوك التجارية في شروط الإقراض، وعذر المؤسسة ـــ كما هو عذر البنوك التجارية ـــ المحافظة على النظام المالي في بلادنا خصوصا أن أموال البنوك التجارية معظمها ودائع لا يمكن إقراضها إلا لآجال قصيرة وبضمانات كبيرة.

يعلم المختصون أن شح التمويل في بلادنا بعد الأزمة المالية العالمية أدى لتوقف أو تباطؤ الإنجاز في مشاريع عملاقة ومهمة وحيوية لخطط التنمية في بلادنا مثل مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، ومشروع جبل عمر، ومشروع معالجة عشوائية قصر خزام، وأن الحكومة تدخلت لتمويلها من خلال صندوق الاستثمارات لأهميتها وحيويتها كما تدخلت لتمويل إنشاء وتوسيع المؤسسات المتوسطة والصغيرة بعدة برامج تقدمها وزارة المالية وبنك التسليف والادخار، ولكن السؤال المهم والمقلق إلى متى تستمر الحكومة في تمويل مشاريع القطاع الخاص الرأسمالية؟ وهل ستفي كل من وزارة المالية، وبنك التسليف والادخار، وصندوق الاستثمارات بجميع طلبات الاقتراض أو جلها؟ بكل تأكيد لا يمكن الاعتماد على الإقراض الحكومي كبديل لآليات التمويل المتعارف عليها سواء من المؤسسات التجارية إلى ما لا نهاية خاصة إذا تعرضت أسعار النفط لهزة تهبط بأسعارها.
ما الحل إذاً؟ أعتقد أن هناك مشاكل كبيرة وتاريخية عديدة أدت لضعف الثقة بالمقترضين من منشآت القطاع الخاص من جهة نية السداد ومن جهة قدرة المنشآت على السداد الأمر الذي أدى لتوجيه مؤسسة النقد للضغط على البنوك للتحفظ في منح القروض لمنشآت القطاع الخاص خصوصا ذات المشاريع الكبرى ووضع شروط توافر مخارج متعددة للبنك لاسترداد القروض وأرباحها، وكلنا يعلم أن المنشآت الخاصة ليست كما الأفراد، حيث يمكن تهرب ملاكها من السداد وما يترتب عليه من مسؤوليات من خلال النظام الأساسي لبعض الصيغ القانونية للشركات الذي يمنع ملاحقة الملاك خارج إطار ملكية المنشأة إلى أملاكه الخاصة.
أيضا هناك خوف شديد من قبل المستثمرين للاستثمار في أدوات الدين من صناديق استثمارية وسندات تطرحها الشركات الخاصة لتمويل مشاريعها للسبب ذاته، حيث ضعف الثقة بنية هذه الشركات وقدرتها على السداد ما لم تكن شركات تملك الحكومة فيها الحصة الأكبر كما هو حال شركتي سابك والكهرباء وبعض البنوك.
أعتقد أن ضعف ثقافة الوضوح والشفافية والمساءلة بشكل عام في بلادنا وانسحاب هذا الضعف على المنشآت الخاصة وراء ضعف الثقة بالمنشآت الخاصة، حيث يسود الغموض وتضارب المصالح والتلاعب العلمي الذكي في إصدار القوائم المالية وتقارير المشاريع وتطورها ومدى تقدمها وفق الخطط المعلنة، وبالتالي يسود الشك لدى المقرضين أيا كانوا أفراداً أو مؤسسات ما يجعلهم يتشددون في الشروط وطلب المزيد من الضمانات حفاظا على أموالهم وأموال المودعين والنظام المالي بالمحصلة.
لنأخذ مثالاً على عدم الوضوح والشفافية، حيث بعض ملاك الشركات يملكون أسهماً واستثمارات في شركات متعددة بأسمائهم وأسماء عائلاتهم وتتقاطع مصالحهم مع مصالح هذه الشركات بطريقة غير واضحة وغير شفافة الأمر الذي ينعكس سلبا على هذه الشركات، ومن ذلك أن عددا من أعضاء مجالس الإدارات في إحدى الشركات قرروا توزيع أرباح في إحدى شركاتهم رغم عدم رشد هذا القرار بحال من الأحوال، حيث الأولوية لسداد القروض ليحصلوا على المال اللازم لمعالجة خسائرهم في شركات أخرى، وبالتالي فنحن في حاجة لنظام يظهر الذمة المالية لجميع أعضاء مجلس الإدارة وأثر ملكياتهم الأخرى في قراراتهم في أي شركة من شركاتهم، أما ندرة الخبرات المالية والإدارية وضعف التخطيط والإشراف والمتابعة فحدِّث ولا حرج.
لائحة حوكمة الشركات التي طرحتها هيئة السوق المالية يجب أن تصبح ملزمة لجميع الشركات المساهمة مدرجة كانت أو غير مدرجة، كما أنه يمكن لوزارة التجارة أن تصدر لائحة حوكمة للشركات التي تخضع لرقابتها بهدف تعزيز الوضوح والشفافية لدى المنشآت الخاصة لمعالجة ضعف الثقة بين الممولين وتلك المنشآت التي تشكو من ندرة وشح التمويل وآلياته دون أن تبذل أي جهد لتحفيز الممولين لتمويل مشاريعهم التي يتباكون على عدم تمويلها بشروط معقولة ومستطاعة.
ختاما: أود أن أشد على يد مؤسسة النقد وهيئة السوق المالية للتشدد في شروط تمويل منشآت القطاع الخاص حتى تتحرك الغرف التجارية بالتعاون مع هيئة السوق المالية ووزارة التجارة لتطبيق لوائح الحوكمة بشكل صارم حتى تثق الجهات التمويلية بمنشآت القطاع الخاص وحتى يكون التمويل فعالا ويستخدم لما هو مخصص له وفق خطط إنجاز مزمنة ومراقبة، ودون ذلك لا أظن أن التمويل الرأسمالي سيكون في الحالة التي نريد وتبقى البنوك متوجهة ودون تردد نحو التمويل الاستهلاكي للأفراد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي