رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


احتلوا الصف المدرسي

في أوائل الشهر الماضي، قامت مجموعة من الطلاب بتنظيم انسحاب جماعي من الدورة التمهيدية الشهيرة في المقدمة لعلوم الاقتصادي، والتي يتولى تدريسها زميلي جريج مانكيو. وكانت شكواهم تتلخص في أن الدورة تروج لأيديولوجية محافظة تحت ستار العلوم الاقتصادية وتساعد على إدامة التفاوت الاجتماعي.
وكان هؤلاء الطلاب عبارة عن جزء من موجة متزايدة القوة من الاحتجاج ضد الاقتصاد الحديث كما يُدَرَّس في المؤسسات الأكاديمية الرائدة على مستوى العالم. كان للاقتصاد منتقديه دوماً بطبيعة الحال، ولكن الأزمة المالية وتداعياتها أعطت لهؤلاء المنتقدين ذخيرة جديدة، ومن الواضح أنها أضفت نوعاً من المصداقية على الاتهامات القديمة الموجهة إلى الافتراضات غير الواقعية التي ساقها خبراء الاقتصاد العاملين في هذه المهنة، والتي جعلتهم يمجدون السوق ويتجاهلون المخاوف والشواغل الاجتماعية.
ومن جانبه، اعتبر مانكيو أن الطلاب المحتجين ''غير مطلعين''. فالاقتصاد بلا أيديولوجية كما رد عليهم. ونقلاً عن جون ماينارد كينز، أشار مانكيو إلى أن الاقتصاد في واقع الأمر عبارة عن وسيلة تعين الناس على التفكير المستقيم والوصول إلى الإجابات الصحيحة، من دون استنتاجات سياسية قَدَرية.
ورغم أن المرء قد يُعذَر إذا لم ينهمك في سنوات من الدراسات المتقدمة في الاقتصاد، فإن البحوث الأكاديمية في البرامج النموذجية لنيل شهادة الدكتوراه في الاقتصاد تنتج مجموعة متنوعة هائلة من الوصفات السياسية تبعاً لسياق معين. فقد تعود بعض الباحثين الأكاديميين الاقتصاديين على تحليل الأسواق الحرة المفضلة في العالم، في حين لا يفعل بعضهم الآخر نفس الشيء. بل إن العديد من البحوث الاقتصادية مكرسة لفهم الكيفية التي قد تساعد بها التدخلات الحكومية في تحسين الأداء الاقتصادي. وعلى نحو متزايد أصبحت الدوافع غير الاقتصادية والسلوك التعاوني الاجتماعي جزءاً مما يدرسه أهل الاقتصاد.
ولنتأمل هنا الأزمة المالية العالمية. لم تكن علوم الاقتصاد الكلي والتمويل تفتقر إلى الأدوات اللازمة لفهم الكيفية التي تنشأ بها الأزمات وتتطور. والواقع أن الكتابات الأكاديمية كانت طافحة بنماذج الفقاعات المالية، والمعلومات غير المتساوقة، وتشوهات التحفيز، والأزمات التي تندلع لمجرد التكهن بوقوعها، والمخاطر النظامية الشامية. ولكن وفي الأعوام التي سبقت الأزمة، قلل العديد من خبراء الاقتصاد من شأن هذه الدروس المستمدة من النماذج لصالح نماذج الأسواق التي تتسم بالكفاءة والقدرة على تصحيح نفسها، وهو ما أسفر عن عدم كفاية الإشراف الحكومي على الأسواق المالية.
والواقع أن التعليم الاقتصادي على المستوى الجامعي يعاني من نفس المشكلة. ففي غمار اندفاعنا لاستعراض جواهر التاج التي لم تشبها شائبة في هذه المهنة ــ كفاءة السوق، واليد الخفية، والميزة النسبية ــ نتخطى مضاعفات العالم الحقيقي وفروقه الدقيقة، رغم الاعتراف الواضح بها في هذا الفرع من العلم. فالأمر وكأن الدراسات الفيزيائية التمهيدية في الفيزياء افترضت وجود عالم خال من الجاذبية، لأن كل شيء يصبح أبسط كثيراً على هذا النحو.
إن تطبيق المعارف الاقتصادية بالشكل المناسب وبالجرعة المناسبة من الحس السليم كان من شأنه أن يعدنا للتعامل مع الأزمة المالية ويوجهنا في الاتجاه الصحيح لإصلاح ما أدى إليها من أسباب. ولكن الاقتصاد الذي نحتاج إليه ينتمي إلى ''حجرة الدرس''، وليس نوعاً من الأحكام القائمة على التجربة. إنه الاقتصاد الذي يدرك حدوده ويعرف أن الرسالة الصحيحة تعتمد على السياق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي