أكثر القطاعات تعرضًا للإفساد هي الأسهل اختراقًا (2 من 2)

أما بالنسبة للتعليم فلأن تجييش الشباب لسلوك معين أمرٌ ممكن لضعف خبراتهم، فإن النتائج السيئة تراكمية ولا يمكن حصرها؛ لأن الاختراق يمكن أن يتم خلال 16 - 17 عامًا من عمر الفرد. في التعليم عوامل التأثير مختلفة نوعًا ما عن تركيبة العوامل التي هي معروفة في القطاع الصحي، فهي هنا تتمحور حول: (1) المدرس/ المعلم مؤديًا للمهنة حرفيًا، كالمدرس أو عضو هيئة التدريس أو عضو هيئة التدريب أو الموجِّه... إلخ.
(2) المهني الإداري كالمدير أو الوكيل في المنشأة أو في المركز أو في المحافظة أو في المنطقة أو في الإقليم.
(3) الإداري من غير المدرسين في المنشأة أو الجهاز التنفيذي أو الجهاز المركزي.
(4) النظم الهشة (كاللوائح والضوابط والتعاميم)؛ حيث إما أن تكون متغيرة باستمرار، أو جامدة لا تتكيف مع تغير الوضع، أو موجهة حسب هوى منتفع. بالطبع لكل من هذه العوامل الرئيسة تفرعات نوعية وكمية تمارس إجراءات وعمليات تنحرف مع مرور الوقت، مما يخلق مسارات غير محددة النهاية أو المعالم.
في النشر العلمي يكاد يكون هناك اتفاق على أن عوامل التأثير والنتائج في ازدياد تفرعًا وتشعبًا، ولكنها ما زالت تندرج تحت عناوين رئيسة. أما من ناحية البوادر والمؤشرات، فعمليًا يمكن الإشارة للآتي: إذا انتقلت سهولة حركة المعاملات إلى صعوبتها وتعثرها ففي هذا بعثرة للجهود وإعدام للتوازن وتقويض للتحرك نحو التطوير التنموي وتحسين بيئة العمل. هنا تخرج القرارات المترددة، وتنشأ مشكلة مراكز قوى. من ناحية أخرى، إذا انتشر التهور وضحالة المعرفة وعدم الاهتمام بين الشباب فهو مؤشر يدل على التوسع في الفساد، ولم يعد مسألة مناولات تحت الطاولة؛ حيث رفض الحلول والتعنت في الرأي، والخروج عن المألوف لمجرد تبيان قوة الشباب، مع أنها موجة في كثير من الأحيان خاوية وينقصها التركيز والقاعدة العلمية الصحيحة. أما إذا ما انعزل رئيس القطاع عن الموارد البشرية العاملة وتنفيذ الأعمال اليومية فهذا توقيع بصعوبة العودة للإصلاح، حتى لو أراد ذلك؛ لأن الطبقة أو الطبقات التي شكلها هو ستحول بينه وبين الإصلاح، وبمرور الوقت تصبح أكثر صلابة وقسوة.
إن ما ينتج عن ذلك الاعوجاج الذي يعانيه التعليم في مراحله كلها دون استثناء، هو سوء إعداد الخطط ثم التخصصات ثم المناهج، ومن ثم الرسالة العلمية. في الوقت ذاته يتم تجفيف الموارد المالية المؤدية إلى سوء إعداد وترسية وتنفيذ وتقييم المشاريع، مما يعني عبثًا في كل أنواع المدخلات، لذلك يجد المجتمع أن القبول والدراسة والاختبارات والتدريب والتقييم والتحفيز في البيئات المختلفة (المدرسة أو المعهد أو الكلية أو الجامعة)، سواء في القطاعين العام أو الخاص، في الدول الفقيرة والغنية، وذات التعداد السكاني الكبير أو الصغير قد كرست لعدم العدالة وعدم المساواة وليس العكس، وهو هنا إيذان بإحباط جديد.
بعض التجارب تشير إلى أن إرادة المسؤول في نشر برامج الجودة تُعَدُّ عودة قوية للإصلاح ونية حسنة بعيدة المدى، إلا أنه لا بد أن يسبق تصحيح المسار التخلص من الفساد الممثل في العناصر والعوامل المؤثرة التي لا ترحب بتبني التطوير عمليا بأي شكل من أشكاله، ثم من بعد ذلك يتم البدء في تطبيق الجودة، وإلا فستكون برامج الجودة نفسها تكريس لمفهوم الفساد مرة أخرى.
ما لوحظ في بعض التجارب أن كل حريص على الإتقان يتفق مع أقرانه على أنه بعدم القدرة على النهوض من العثرة، فإن النسيج الاجتماعي سيتحلل، وذلك ينذر بنشر الفساد بانهيار الاقتصاد وتباعد الرغبة في التقارب، ويبدأ الأفراد في البحث عن مخارج ''فردية''، وهذه المرحلة خطيرة للغاية، حمانا الله من ذلك.
الآن؛ هل يمكن تغيير النظرة لهذا العمل المشين حتى نتمكن من جعله يأكل بعضه بعضًا فيتلاشى من نفسه أو يقف عند حد من يضرمون النار فيه؟ الإجابة: نعم، ولكن مع أن تناوله بالتفصيل يعني الاستطراد في كل مسألة، إلا أن ذلك أهون من الجلوس من دون أن يكون هناك حراك عملي للبدء في الحلول. فلو عرينا حقيقة الفساد من بداية ظهور أي غريب، ثم حددنا وأشعنا أن من يقترب منه يلحقه شواظ من ناره، ثم وقف أي سلوك من شأنه إبطاء الحركة، وتدربنا على تحليل المشاكل بمنطق إيجابي وبذل المبادرة بشكل تطوعي، فإننا سنجعل ثقافة الجيل الحاضر أن ينمي في الجيل التالي وجوب ديمومة التنمية المستدامة في كل شبر من هذه الأرض الطيبة، وهذا يجعلنا نعمل لما لا يقل عن 50 عامًا من الآن، وهو الأصل في النهوض مع ديمومة العزة.
أما بالنسبة لمن تأسَّف لفقدنا أصحاب الفكر والعلم والجهود الطيبة (بالإقصاء أو التطفيش أو التهميش) ممن كانوا يقدمون ولا يتكلمون، ووهبوا أنفسهم للعمل بهدف المشاركة في تنمية الوطن. أقول: إن هؤلاء لا يَكَلُّون ولا يملون؛ لأن هذا ديدن حياتهم. وكما أنها خسارة ظاهرية فهي مكاسب فعلية وعملية. لقد أسسوا ركائز تخدم لسنين طويلة في مواقعهم السابقة، وهم في مواقع جديدة يساهمون بأسلوب آخر يحارب الفساد. فالحمد لله من قبل ومن بعد، والله المستعان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي