مخلفات «القرن الـ 20 الفكرية» وتشويه الوعي الجمعي
لا أتمالك نفسي وأنا أرى أحد مخلفات ''القرن الـ 20 الفكرية'' وقد تجاوز عمره أكثر من نصف قرن وهو يشوه الوعي الجمعي بتحليل الواقع بجميع أحداثه واستشرف المستقبل دون أن يكلف نفسه عناء فهم المتغيرات المؤثرة ووزن كل منها وأثره على بقية المتغيرات في صناعة الواقع والمستقبل، وما أكثرهم وما أكثر خروجهم في الوسائل الإعلامية كافة التي تعتقد أنهم مفكرون متجددون يواكبون المتغيرات وما يطرأ عليها من تغيرات وصداها في الواقع والمستقبل وهم خلاف ذلك تماما إذا ما زالوا يعيشون الماضي ويفسرون الأحداث الحالية ويتوقعون المستقبل من خلال أحداثه ونتائجها.
ولكي أوضح ذلك دعونا نتخيل وسائل النقل قبل الثورة الصناعية وأثرها في تخطيط المدن وماذا حدث بعد أن دخلت السيارة كوسيلة نقل بعد الثورة الصناعية وكيف أثرت السيارة كمتغير جديد في بقية متغيرات النقل السابقة (الحصان، الجمل، الحمار، البغل... إلخ) وجعلتها تراث ووسائل ترفيه واستمتاع وكيف أثرت السيارة في شكل المدن في الدول المتقدمة والنامية بشكل متزامن، وكيف أصبحت السيارة من حيث الكم والنوع متغيرا رئيسا في تخطيط المدن من حيث الطرق الرئيسة والمتفرعة منها ومن حيث الجسور والأنفاق ومواقف السيارات، ولنا أن نتخيل مفكرا يتحدث عن واقع ومستقبل مخططات المدن دون أن يأخذ السيارة كمتغير جديد وحاسم في تشكيل هذه المخططات، بكل تأكيد سيكون مفكرا متخلفا لا يأتي بخير.
ولو انتقلنا من خرائط المدن المادية الملموسة التي تؤثر في حركة الأفراد والسيارات إلى خرائط الوعي الجمعي المعنوية غير الملموسة التي تؤثر في مواقف وسلوكيات الأفراد والمجتمعات ودرسنا متغيرات التواصل وتشكيل الوعي التي تؤثر في مواقف وسلوكيات الأفراد والمجتمعات والوزن النوعي لكل متغير وعرفنا أن هناك متغيرا جديدا يسمى ''الإنترنت السريع وتطبيقاته'' أصبح ذا أثر بالغ في تعزيز التواصل وتشكيل الوعي الجمعي من ناحية وذا أثر بالغ في الأوزان النوعية للمتغيرات الأخرى (الصحف، التلفزيون، الإذاعة، المدرسة، الأسرة، الأصدقاء... إلخ)، أقول لو عرفنا كل ذلك لأدركنا أن أي تحليل للواقع وتوقع للمستقبل فيما يتعلق بالمواقف والسلوكيات الجمعية بالاستناد إلى مواقف وسلوكيات تاريخية قبل دخول هذه المتغير ودون معرفة سليمة به وبأثره العميق في الوعي الجمعي وما يترتب على ذلك من مواقف وسلوكيات مفاجئة وخارجة عن المألوف سيكون تحليلا متخشبا صادرا من أحد مخلفات ''القرن الـ 20 الفكرية''.
نعم ليس كل مفكري القرن الـ 20 وحتى كبار السن منهم من المخلفات الفكرية فمنهم من يتجدد ويتابع بكل مرونة فكرية ما يجعله مفكرا متجددا محيطا بجميع التغيرات والمتغيرات الأمر الذي يمكنه من قراءة الواقع وتحليله وتوقع المستقبل بدرجة عالية من السلامة والجودة، وهؤلاء وللأسف الشديد قلة قليلة مقابل الأكثرية الشبابية التي أذهلت قدرتهم على فهم الواقع وتحليله وتوقع المستقبل الكثير من أفراد المجتمع، نعم أذهلت الكثير لدقة الفهم وعمق التحليل وثبات ووضوح الموقف والسلوك وما نتج عن ذلك من تغير مفاجئ للواقع.
يقول أحد الأصدقاء إننا نعيش في مرحلة تحول يقف على قمة هرمها جيل ما قبل الأبيض والأسود وفي منتصف هرمها جيل الفضائيات والديجتال وهم أكثر عدداً وفي قاع هرمها وهم الأكثرية جيل فتح عينيه على ''الآي باد'' و''الآي فون'' و''اليوتيوب'' و''الفيس بوك'' و''التويتر''، وبالتالي فهناك فجوة كبيرة بين قيم ومفاهيم ومعارف من هم في قمة الهرم وهم الأقلية ومن هم في وسطه وقاعه وهم الأكثرية العظمى، وهي فجوة أدت بصورة أو بأخرى إلى غياب التفاهم المشترك المحقق للتكامل والتعاون والتأثير الإيجابي المتبادل، وبالتالي فإن الفشل نصيب كل ما لا يدرك ذلك والنجاح أو لنقل التوافق نصيب كل من يدرك ذلك ويعمل بموجب هذا الإدراك.
وأعتقد من جانبي أن كل مفكر لم يدرك أن الإنترنت السريع وتطبيقاته خصوصا تطبيقات الإعلام الاجتماعي التي صنعت عالما افتراضيا يختلف تماما عن العالم المادي جعل أفراد المجتمع يعيشون في عالمين افتراضي ومادي ينفصلان أحيانا ويتصلان أحيانا أخرى، عالمين أحدهما وهو الافتراضي عزز قيم الحرية والإرادة والشجاعة في نفوس أفراد المجتمع، ومكن أي فرد منهم من صناعة المحتوى ونشره وبثه والتواصل مع الملايين أينما كانوا وتبادل المعرفة واختبار قيمه ومفاهيمه معهم، والآخر عالم مادي يُظهِر وبشكل فجائي ما نتج عن العالم الافتراضي من وعي جديد من مواقف وسلوكيات، أقول كل من لم يدرك ذلك سيكون مفكراً أقل ما يقال بحقه أنه من مخلفات القرن الـ 20 الفكرية التي تدفع بتشويه الوعي الجمعي بدل من تصحيحه الأمر الذي قد يدفع أفراد المجتمع للتصادم بدل التوافق لتحقيق الأهداف التنموية.
وإذا كان الإنترنت السريع وتطبيقاته وما نشأ بسببه من وعي جديد يتزايد بمعدلات متسارعة متغيرا مهما في فهم وتحليل الواقع وتوقع المستقبل فإن فهم المنطلقات الفكرية وما يبنى عليها من خطط استراتيجية للدول الكبرى المؤثرة في المشهد العالمي بجميع أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية عنصر مهم هو الآخر في تحليل الواقع وتوقع المستقبل، وللأمانة فإن معظم المفكرين الذين يتصدون لتحليل الواقع وتوقع المستقبل ينطلقون في تحليلاتهم من فكرهم وانطباعاتهم ورغباتهم بدل أن يفهموا فكر الدول الكبرى وتطبيقاته وتجلياته ما يجعلهم يمعنون في تشويه الوعي الجمعي وتضليله وللأسف الشديد.
ختاما: أرجو من كل مفكر يتصدى للتحليل والتوقع من خلال الوسائل الإعلامية أن يحترم الوعي الجمعي الجديد وأن يعمل على تعزيزه من خلال الفهم العميق لمتغيرات تشكيل الوعي الجمعي وآثارها ومن خلال فهم فكر الدول المؤثر وما يبنى عليه من استراتيجيات لكيلا يكون من مخلفات القرن الـ 20 الفكرية المشوهة للفكر الجمعي والمعيقة للتنمية بالمحصلة.