حيز مالي كبير.. وقطاع مالي متين
كان اللقاء الذي عقد الأسبوع الماضي في مدينة أتلانتا في الولايات المتحدة الأمريكية ونظمه مجلس الأعمال السعودي الأمريكي بالتعاون مع لجنة التجارة الدولية فرصة حقيقية لتعزيز آفاق التعاون التجاري وفتح نوافذ جديدة لهذا التعاون بين البلدين. التوقيت جاء مناسباً، وكان فرصة مناسبة للمملكة، لتعرض للعالم الفرص الاستثمارية المتوافرة لديها، خصوصاً في ظل قلة الفرص الاستثمارية العالمية، وحالة القلق التي تلف أوساط المستثمرين، بسبب الأزمة الحالية في منطقة اليورو. اللقاء كان فرصة أيضاً لاستعراض ومناقشة السياسات الاقتصادية التي تبنتها المملكة، والتي ساهمت بشكل كبير في تجنيبها آثار الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في عام 2008، وها هي الآن تلقي بظلالها مرة أخرى على اقتصادات منطقة اليورو. جادل الكثيرون حول هذا السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها المملكة، من حيث درجة التحفظ التي تلفها، لكن الآن يثبت الزمن، وبشهادة من حضروا هذا اللقاء، بمن فيهم المسؤولون الأمريكيون، فائدة هذه السياسات.
السياسة المالية التي اتبعتها المملكة هي سياسة مضادة للدورات الاقتصادية countercyclical، حيث تزيد المملكة مدخراتها واحتياطياتها عند ارتفاع أسعار النفط وزيادة الإيرادات، وتمول الإنفاق بالعجز خلال أوقات تراجع أسعار النفط. هذه السياسة ساهمت بدرجة كبيرة في تخفيف آثار الأزمة المالية على المملكة. فخلال أزمة 2008، استطاعت المملكة أن تعزز النمو الاقتصادي من خلال تبني البرنامج الإنفاقي الاستثماري الكبير، والذي تتوزع منافعه على أكثر من جيل، مما نتج عنه أن المملكة كانت من الدول القلائل التي حققت نمواً إيجابياً خلال عام 2009 اللاحق الأزمة المالية، كما استمرت في تحقيق نمو مطرد خلال عام 2010، ويتوقع أن تحقق نمواً كبيراً خلال هذا العام، قد يقارب الـ 7 في المائة. هذا يحدث في الوقت نفسه الذي يتوقع أن تعاني فيه دول العالم جميعا، بما فيها دول الاقتصادات الصاعدة، من تراجع في النمو الاقتصادي، نتيجة للأحداث الاقتصادية التي تشهدها القارة الأوروبية.
على الجانب الآخر، ساهمت السياسات النقدية، وسياسات القطاع المالي المتحفظة، في التخفيف بدرجة كبيرة من آثار الأزمة المالية عام 2008 على القطاع المالي في المملكة، وهذا مكن هذا القطاع من الاستمرار في التوسع في منح الائتمان، وتعزيز النمو الاقتصادي. وفي نفس الوقت الذي تعانيه اقتصادات دول العالم حالياً، خصوصاً اقتصادات دول منطقة اليورو، من تراجع كبير في الائتمان، وارتفاع في تكلفته، تتمتع المملكة اليوم بنمو في الائتمان المصرفي، وزيادة مطردة في مطلوبات القطاع المصرفي، مما يعكس ارتياحاً حيال الوضع الاقتصادي في المملكة. سياسات القطاع المالي المتحفظة، والتي كانت محل نقد كبير من الجميع قبل الأزمة المالية، ساهمت في تعزيز الملاءة المالية للقطاع المالي، وجعله أكثر متانة لمواجهة الأزمات المالية، وبالتالي لم يكن هناك حاجة لحزمة إنقاذ حكومي للقطاع المالي، كالتي تبنتها الولايات المتحدة، أو التي يجري نقاشها حالياً في منطقة اليورو، والتي تستهدف حماية القطاع المالي في الدرجة الأولى. هذا الأمر أدى إلى توفير هذه الموارد لتكون جاهزة لإنفاقها على حزم الإصلاح المالي والاقتصادي التي تبنتها المملكة في بداية هذا العام.
ومن المفارقات العجيبة، أن السبب الذي أدى للأزمة الاقتصادية التي تشهدها منطقة اليورو، ودول أخرى كبريطانيا والولايات المتحدة، هو السبب نفسه الذي كانت المملكة تحذر منه ومن نتائجه. فالتوسع الكبير في الائتمان، والحد من التشريعات المنظمة له، ساهم في إشعال الشرارة الأولى للأزمة المالية، وبالتالي عدم قدرة المؤسسات الاقتصادية في هذه الدول على إدارة الأزمة والتحكم فيها. كما أن ما نشهده الآن من أزمة ساهمت فيه سياسات الإنفاق غير المدروس، بما في ذلك التوسع الكبير في الاستدانة، مما جعل قدرة هذه الدول على التفاعل بطريقة مضادة للدورة الاقتصادية محدودة للغاية، لسبب بسيط، هو عدم توافر الحيز المالي اللازم لذلك لديها. اليوم، هناك صراع كبير في أوساط الكونجرس الأمريكي على طريقة معالجة هذا الدين الكبير والتعامل مع عجز الميزانية، وجدل واسع في أوساط مجلس العموم البريطاني حول جدوى سياسات التقشف الحادة جداً التي تتبناها الحكومة البريطانية منذ اندلاع شرارة الأزمة، ومنطقة اليورو تبحث الآن عن مخرج من أزمتها خلال سياسات مالية أكثر تحفظاً على مستوى المنطقة.
المملكة بحمد الله تتمتع بحيز مالي لمواجهة تبعات أي أزمة عالمية، أو لمواجهة متطلبات الإنفاق على مشاريع الإصلاح الهيكلي للقطاعات الاقتصادية المختلفة لسنوات قادمة، بما فيها قطاعا الصحة والتعليم، اللذان يستحوذان على التركيز الأكبر في خطة التنمية التاسعة. لكن يبقى مع ذلك مشاكل اقتصادية واجتماعية تشغل بال وهم المواطن والمسؤول على حد سواء. توفر الحيز المالي، لا يعني حل هذه المشاكل، ولكن حسن إدارة ما يخصص من هذه الموارد للقطاعات المختلفة واستغلالها بالطريقة الصحيحة، هو ما سيؤدي إلى نتائج إيجابية على حياة المواطن، وسيشعر المواطن بجدوى هذه السياسات. ولنتذكر أنه مهما توافر من موارد مالية، فلن يكون هناك عائد إيجابي لها على المواطن، إذا لم يحسن المسؤولون إدارتها.