التمويل المصرفي بين النمو الاقتصادي ومتانة المصارف

هدفت دراسة صدرت مطلع الأسبوع الحالي من صندوق النقد الدولي إلى التعرّف على العلاقة بين متانة القطاع المصرفي والتوسّع في التمويل المصرفي. صدرت الدراسة تحت عنوان، ''نمو التمويل المصرفي ومتانة المصارف: السرعة والتهور''. سعت الدراسة إلى التعرف على المخاطر المالية التي تصاحب التوسع السريع وغير المبرر في التمويل من منظور نمو الاقتصاد المحلي للقطاع الخاص.
اعتمدت الدراسة على بيانات حجم التمويل من واقع القوائم المالية للمصارف التجارية في 90 دولة متباينة درجة نموها الاقتصادي من ناشئة إلى متقدمة خلال الفترة من 1995 إلى 2005. من أهم هذه البيانات حجم التمويل إلى إجمالي الموجودات، وتكلفة التمويل إلى إجمالي النفقات، ونسبة الملكية المحلية إلى الأجنبية في المصرف الواحد. كما اعتمدت الدراسة أيضا على مؤشرات من الاقتصاد الكلي لكل دولة من الدول الـ 90 من أهمها الناتج المحلي الإجمالي، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل حجم التمويل إلى الناتج المحلي الإجمالي.
قسّمت الدول الـ 90 إلى أربع مجموعات شملت الدول ذات الدخل المرتفع من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والدول ذات الدخل المرتفع الأخرى، والدول متوسطة الدخل، والدول منخفضة الدخل. وضعت السعودية ضمن المجموعة الثانية، الدول ذات الدخل المرتفع التي ليست عضواً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى جانب كل من الكويت، وعمان، والإمارات، وسنغافورة، وهونج كونج، ومالطا، وسولفينيا، وأستونيا، وصربيا، وكرواتيا. ثم قسّمت الفترة 1995 إلى 2005 إلى ثلاث مراحل: الأولى مدتها عشرة أعوام (1995-2002)، والثانية خمسة أعوام (1995-2000)، والثالثة خمسة أعوام (2001-2005) بهدف متابعة مراحل نمو أو تراجع حجم عمليات التمويل مع درجة متانة القطاع المصرفي ومعدلات النمو الاقتصادي في اقتصاد كل دولة. أجرت الدراسة بعد ذلك مجموعة من العمليات الحسابية على البيانات بما يمكّن من التعرف على طبيعة العلاقة بين نمو عمليات التمويل للقطاع الخاص ودرجة متانة القطاع المصرفي.
توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج الجديرة بالمدارسة من منظور الاقتصاد السعودي آخذين في الاعتبار أربعة تطورات خاصة بالاقتصاد السعودي وقطاعه المصرفي. التطور الأول، أن الاقتصاد السعودي يسجل مستويات نمو جيدة بدليل استدامة نمو إجمالي الناتج المحلي من 686 مليار ريال نهاية 2001 إلى 1.640 مليار ريال نهاية 2010 على الرغم من تحديات عامي 2002 و2009 وازدهار عامي 2003 و2005. والتطور الثاني، أن حجم التمويل إلى إجمالي موجودات المصارف السعودية قد تطوّر من قرابة 34 في المائة في 2001 إلى قرابة 46 في المائة في 2010. والتطور الثالث، أن أرباح التمويل للمصارف السعودية كانت تشكل قرابة 22 في المائة من إجمالي أرباحها التشغيلية في 2001 مقارنة بقرابة 26 في المائة في 2010. والتطور الرابع، نسبة اكتمال مشاريع البنى التحتية في المملكة ومدى الدافع نحو نمو الإنفاق الحكومي خلال الأعوام المقبلة.
من الأهمية ذكر ثلاث نتائج إحصائية خرجت بها الدراسة قبيل النظر في نتائجها الاقتصادية، مع التركيز على مجموعة الدول التي يقع الاقتصاد السعودي من ضمنها، وهي الدول ذات الدخل المرتفع التي ليست عضواً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث شهد المعدل السنوي لعمليات التمويل في هذه الدول نمواً قارب 8 في المائة خلال 1995 ـــ 2000 قبل أن يتضاعف هذا المعدل ليصل إلى قرابة 15 في المائة خلال 2001 ـــ 2005. وبلغ المعدل السنوي لتكلفة التمويل قرابة 58 في المائة خلال 1995 ــــ 2000 قبل أن يتراجع إلى قرابة 55 في المائة خلال 2001 ــــ 2005. كما شهدت الفترة 2001 ـــ 2005 نمواً في ملكية الاستثمارات الأجنبية في رساميل المصارف لتصل إلى قرابة 22 في المائة بعد أن كانت قرابة 19 في المائة خلال الفترة 1995 ـــ 2000.
توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج الداعمة إلى واقعية حدوث دورات اقتصادية في عمليات التمويل المصرفي متجانسة مع النمو الاقتصادي الذي يمر به الاقتصاد المحلي. حيث يؤدي النمو الاقتصاد إلى التوسّع في عمليات التمويل المصرفي مما يضفي درجة من الانتعاش الاقتصادي. يكون السبق في التوسّع في عمليات التمويل المصرفي للمصارف العريقة ذات المتانة المالية العالية. ثم يشّجع استدامة النمو الاقتصادي المصارف الناشئة ذات المتانة المالية المتواضعة على اللحاق بركب التمويل المصرفي عن طريق إعطاء مميزات إضافية بهدف تسويق منتجاتها التمويلية والاستحواذ على جزء من سوق التمويل المصرفي يمكنها من المنافسة. ثم تتساوى المتانة المالية للمصارف مع استدامة نمو الاقتصاد المحلي مما يجعل من الصعب التفرقة بين مصرف متين ومتواضع مالي. يستمر التمويل المصرفي في النمو حتى يتعدى معدل نموه السنوي إلى الناتج المحلي الإجمالي 10 في المائة. ومع استمرار التوسّع في التمويل المصرفي دون إجراءات تدخل من السياسة المالية والنقدية تضمن بقاء معدلات النمو ضمن نطاق السيطرة يحدث التغير في حالة الاقتصاد من نمو سريع وازدهار إلى ركود وانكماش. تنعكس حالة الركود والانكماش الاقتصاد على المصارف ذات المتانة المالية المتواضعة في المقام الأول قبل أن يطول التحدي المصارف ذات المتانة المالية العالية. ثم يمتد الأثر إلى المصارف ذات الرساميل الأجنبية ناقلة بهذا التأثير حالة الركود والانكماش إلى مصارفها الرئيسة في موطنها الأم.
تحمل نتائج الدراسة في طياتها العديد من الفوائد حول طبيعة العلاقة بين متانة القطاع المصرفي والتوسّع في التمويل المصرفي. ففي الوقت الذي يسهم النمو الاقتصادي في التوسّع في التمويل المصرفي، نجد أن استدامة نمو التمويل المصرفي دون مراعاة لحجم الاقتصاد المحلي ودرجة نموه قد تؤدي إلى انعكاسات سلبية على متانة القطاع المصرفي. يقودنا ذلك إلى التأكد على أنه وعلى الرغم من الدور الإيجابي للتمويل المصرفي في استدامة النمو الاقتصادي بتوفيره لمنتجات تمويلية عديدة تلبي احتياجات القطاع الخاص، إلا أن التوسّع السريع وغير المتجانس مع الدورة الاقتصادية للاقتصاد المحلي قد ينعكس على المتانة المالية للقطاع المصرفي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي