الإسكان.. الحل من الجذور
قضية السكن أصبحت هي القضية المحورية التي تدور حولها جميع النقاشات والحوارات الاقتصادية أو الاجتماعية. وهو تطور طبيعي لدولة تشهد نمواً كبيراً في تعداد السكان، وانخفاضا كبيرا في نسبة تملك المساكن. أضف إلى ذلك أن السكن يستأثر بالنسبة الكبرى من الدخل، مما يؤدي إلى أن يقضي الفرد جل حياته للاستعداد لهذا المشروع. تملك السكن كما نعلم وسيلة لتحقيق الاستقرار والأمان الاجتماعي، وهو أهم عوامل تعزيز المسؤولية الاجتماعية والمواطنة سواءً على مستوى الفرد أو على مستوى الدولة. المملكة تواجه هذه القضية من أوجه متعددة، منها زيادة المعروض من الإسكان، من خلال البناء المباشر للمساكن، ومن خلال تعزيز التمويل الإسكاني، سواءً بزيادة قرض الصندوق العقاري وزيادة مرونته.
لكن جذور المشكلة الرئيسة التي تواجه المعضلة السكانية في المملكة لم تتم مواجهتها حتى الآن، حيث إننا إلى الآن نتعامل مع أعراض المشكلة، ونهمل جذورها. هذه الجهود والاستثمارات الكبيرة للدولة ستؤدي إلى فك الاختناقات السكانية خلال المرحلة الحالية، لكن على المدى المتوسط والبعيد ستظل المشكلة قائمة، في ظل استمرار النمو السكاني، والازدياد المطرد للطلب على المساكن. المشكلة أننا دائماً نرمي الحلول على الدولة، دون التفكير في حلول لهذه المشكلة من خلال آليات السوق. فالدولة تستثمر استثمارات كبيرة في بناء المساكن، ثم سيتم منحها أو تقسيطها على عدد محدود من المواطنين، بينما ستظل فئة كبيرة من الناس، تواجه المشكلة نفسها في الحصول على المسكن.
ليس من الواقعي أو من المعقول أن نتوقع أن الدولة ستوفر مسكناً لكل مواطن، لأنها لن تتمكن من ذلك مهما كانت مواردها. كما أن المضي في ذلك سيؤدي إلى سوء توزيع لهذه الموارد، حيث ستكون النسبة التي ستستفيد من هذه الموارد محدودة، بينما سيبقى الآخرون عاجزين عن الحصول على السكن. أضف إلى ذلك أن استثمار الدولة سيؤدي في النهاية إلى مزاحمة استثمارات القطاع الخاص، وبالتالي سيحد من التوسع في عملية تطوير الأراضي السكنية. هذا لا يعني أن الدولة ليس لها دور في حل هذه المشكلة، بل هو دور رئيس ومهم، خصوصاً من خلال الأطر التشريعية، لكن المهم هو السياسية أو الاستراتيجية التي ستتبعها الدولة لصياغة حل دائم وجذري لمشكلة الإسكان.
في المملكة بالذات ليس هناك مشكلة في العرض من الإسكان كما في الدول الأخرى، لكن المشكلة في توافر السكن بأسعار معقولة affordable housing. وهذه الفجوة الكبيرة بين دخول المواطنين، وأسعار المساكن أفرزتها آليات السوق غير المرنة والاحتكارات التي لازمت القطاع العقاري طوال السنوات الماضية. وإذا لم يتم التعامل مع هذه المشكلة من خلال إعادة هيكلة السوق العقاري بأكمله، مع التركيز على فك هذه الاحتكارات، فسنظل ندور في حلقة مفرغة بحثاً عن حلول للمشكلة الإسكانية، وستتحمل الدولة وحدها في كل مرة عبء حل هذه المشكلة.
والمعضلة السكانية لم تواجهها المملكة وحدها، ولكن واجهتها دول كثيرة من العالم، واستطاعت دول كثيرة التعامل معها بفاعلية. هذا يؤكد أهمية الاستفادة من التجربة الدولية في التعامل مع مشاكل الإسكان، خصوصاً في ظل العمل التي تعكف عليه وزارة الإسكان حالياً لصياغة الاستراتيجية العامة للإسكان، التي تمت مناقشتها أخيرا في ورشة عمل مصغرة في مجلس الشورى. كي تنجح هذه الاستراتيجية، فإنها يجب أن تستفيد تجارب الدول المشابهة لظروف المملكة، في التعامل مع المشكلة الإسكانية، وأن ترتكز على تفعيل عوامل السوق، وزيادة مرونة الطلب والعرض من الإسكان.
كل ذلك يتطلب وضع جميع الخيارات على طاولة النقاش، بما في رسوم الأراضي البيضاء، ورسوم عمليات بيع وشراء الأراضي، والنظر في أنظمة التملك للأراضي السكنية الكبيرة جداً. هذه العوامل مهمة كي يكون هناك توازن بين دخل المواطن وتكلفة السكن، ولكيلا يؤدي ذلك إلى أن تتحمل الدولة الفرق، الذي سيذهب بالطبع إلى جيب المحتكر. الدور التمويلي المهم الذي يمكن أن تلعبه الحكومة في هذا المجال، يمكن أن يأتي من خلال استحداث برامج ادخارية للمواطن تستهدف في النهاية تملكه السكن. وفي هذا الإطار بالذات يمكن الاستفادة من تجارب وبرامج عدد من الدول كإقليم هونج كونج في الصين.