متى يؤمن القطاع الحكومي بـ «خدمة العملاء»؟ (1من2)
الانطلاقة
إنها سلسلة مقالات مترابطة موضوعيا تطرح أفكارا ومبادرات لتطوير القطاع العام وإعادة هيكلته. فقد أشرت في مقالة سابقة (الخدمة المدنية + العمل = وزارة الموارد البشرية).. إن القطاع العام يحتاج إلى مبادرات تنظيمية وإدارية؛ لذا فإن سلسلة ''تكريب النخل'' تندرج ضمن ذلك النوع من المبادرات. هي أفكار حصيلة عصف ذهني. فيها مساحة كبيرة للاتفاق والاختلاف. لا ندعي فيها حلولا سحرية، وإنما نحاول من خلالها التفكير معكم بصوت عال وبطريقة غير تقليدية let us think out of the box، فهذا ''الصندوق'' قد عطل تفكيرنا لزمن وكبلنا عن طرح المبادرات والأفكار الجديدة!
أما ''التكريب'' فهو في الأساس عملية يقوم فيها المزارعون عندنا بتشذيب السعف وقواعده المتصلة بجذع النخلة. وهو تصور مجازي مستمد من البيئة المحلية استخدمته كناية عن فكرة تطوير القطاع العام!
المشكلة
إن أكبر مشكلة يعانيها القطاع الحكومي (البيروقراطي) في العالم العربي أنه لا يعترف بمبادئ ومفاهيم خدمة العملاء. ما نذهب إلى معظم جهاتنا الحكومية في السعودية إلا ونجد المعاملة السيئة حتى مع المسنين وذوي الاحتياجات الخاصة! تصادف مجموعة من الموظفين المصابين بـ ''السادية'' يتلذذون بتعقيد المواطنين والتعسير عليهم ومماطلتهم والتفنن في إيجاد النواقص في معاملاتهم لتصريفهم وإرغامهم على زيارتهم غدا أو بعد غد أو ربما بعد عام. فالزمن والمواطن لا قيمة لهما عند ''الموظف البيروقراطي'' الذي لا ينظر في ساعته إلا متحينا الانصراف!
تسأل الموظف في الشباك. لا يرد عليك. بعد إلحاح منك، يتفضل بالإجابة بوجه عابس منزوع الابتسامة. تتصل هاتفيا على أي جهة حكومية، بالكاد تجد من يرد عليك، لو رد فلن يكون نافعا لا في إعطائك المعلومة الصحيحة ولا في إفادتك عن وضع معاملتك. وإذا قدر الله وكانت معاملتك عند موظف بعينه، ستتصل ولن تجده. يرد زميله بالعبارة الشهيرة: ''فلان مو على مكتبه''!. فماذا تعني هذه العبارة ''الغامضة''؟ هل هو موجود أم لا؟ إذا كان غائبا، متى يرجع سعادته؟!
بل أسأل أيا من الإخوة مندوبي الشركات (المعقبين) عن تعامل الجهات الحكومية لهم. سوف يروون لك عن المعاملة المهينة التي يتعرضون لها يوميا. يكفيك مشهد تسليم الموظف الحكومي المعاملة للمندوب. يرمي المعاملة وهو جالس كأنها ''الصحن الدوار''، وعلى المعقب أن يقفز بـ ''الزانة'' ليلتقط الأوراق المتناثرة!
ما الذي يضر الموظف الحكومي أن يناول المعاملة بكل أدب واحترام وهو يبتسم للمواطن ويقول: ''تفضل.. أي خدمة أخرى''؟
وما الذي يضر شرطي المرور أن يقول عبر المكبر: ''لو سمحت أفسح الطريق'' بدلا من عبارة ''تحرك يا راعي...''!!.. هل من المعقول أن ُيفقدك أحدهم هويتك كمواطن سعودي ويحولك إلى مجرد سائق لمركبة مستوردة؟
للأسف، لا أحد يكترث بخدمة العملاء في القطاع العام، ولا توجد جهة أو دراسات تقيس رضاهم تجاه الخدمات الحكومية. هل سمعتم عن جهة حكومية تهتم برضا العملاء؟ هل قرأتم عن جهات حكومية ضمنت عبارات الرؤية والرسالة ـــ إذا كان البعض منها يملك أصلا رؤية ورسالة! ـــ مفردات مرتبطة بخدمة العملاء أو رضا العملاء؟
للأسف مجددا، القطاع الحكومي لا يتعامل مع المواطنين على أنهم ''عملاء''. فالجهة الحكومية ترى أنها صاحبة اليد العليا، وهي ''المتفضلة'' على المواطن. قد يقول قائل إن ''خدمة العملاء'' هي منهجية تخص المؤسسات الربحية لأنه ''تبيع'' سلعا أو خدمات. كلام صحيح. مفاهيم ومبادئ خدمة العملاء نشأت في كنف القطاع الخاص. إلا أن دول العالم المتحضر (الغرب وشرق آسيا) قد تبنت مفاهيم خدمة العملاء في القطاعات العامة وعاملت ''المواطن'' على أنه ''عميل'' ليس لأنه يدفع الضريبة ـــ أي أنه يدفع راتب الموظف الحكومي من جيبه كما يدفع عميل الشركة رواتب موظفيها ـــ بل لأنه إنسان تصان كرامته وحقوقه. أما عند بني يعرب، فإن مفهوم المواطن/ العميل ''غائب'' عن القطاع العام (أمين منطقة عسير ينهر مواطنا ويطرده من مكتبه!). بل إنه غائب حتى عن بعض المؤسسات والشركات الخاصة (موظف الخطوط السعودية الذي اعتدى ــــ بالدال وليس النون ـــ بالضرب على مسافر!).
الأمثلة ''السيئة'' لا تحصى عربيا وسعوديا، ومع ذلك نستثني التجربة الوحيدة في عالمنا العربي وهي التجربة الإماراتية التي نجحت في تسيير القطاع العام قبل الخاص على نهج خدمة العملاء (برنامج الشيخ خليفة للتميز الحكومي وبرنامج دبي للأداء الحكومي المتميز).
فخدمة العملاء تتم عندما تسعى المؤسسة إلى تحقيق رضا العملاء عن طريق الوفاء بتطلعاتهم واحتياجاتهم. وتركز هذه الخدمة على ثلاثة جوانب أساسية: (1) التميز في تقديم الخدمة للعميل: أي بدلا من تقديم خدمة تتوافق مع تطلعات العميل، حاول أن تقدم له خدمة تبهره وتتجاوز تطلعاته، (2) التواصل الفعال مع العميل: استمع لعميلك ولا تجادله. كن إيجابيا معه، وأدرك أنه محق دائما. أصغ لشكواه ومقترحاته وأفكاره واتخذ إجراءات فعلية تجاه كل مقترح وشكوى يطرحها، (3) الاهتمام بالموظفين: خاصة أولئك الذين يحتكون بالعملاء أي موظفي الإدارات الأمامية front line staff الذين يتطلبون قدرات ومهارات ضرورية كالتمتع باللباقة والبشاشة والصبر والتحمل وحب مساعدة الآخرين، مع ضرورة تأهيل موظفي الإدارات الخلفية back line staff حتى لو لم يواجهوا العملاء مباشرة.