رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


روبيني.. عرَّاف الأزمة

عندما تنبّأ نورييل روبيني بحدوث أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة واحتمالات امتداد تأثيراتها إلى الاقتصاد العالمي، لم يكن أحد مستعدا لسماع ما يقول. فالانتعاش في أسواق الائتمان الذي كانت تتمتع به المؤسسات المالية، والنمو المطرد في الائتمان والاستهلاك ومن ثم تعزيز النمو والأرباح للشركات، لم يتركا مجالاً سواءً لأي صانع قرار اقتصادي، أو للمستثمرين في الأسواق المالية، للتفكير في مصداقية هذه الآراء التي كان يطرحها Dr. Doom كما يحلو للكثيرين تسميته. روبيني كان وقتها أكاديمياً في جامعة نيويورك، ولم يحظ بالصيت والعلاقات التي تجعل الآخرين يستمعون إليه. لم تكن نشاطاته تتعدى إلقاء المحاضرات وتقديم الاستشارة التي يدعى إليها ويجدها فرصة لإبراز وجهة نظره المتشائمة حول ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع بالنسبة للاقتصاد العالمي. درَس في جامعة ييل، وعمل مستشاراً في صندوق النقد الدولي، والاحتياطي الفيدرالي، والبنك الدولي، وبنك إسرائيل، إضافة إلى عمله مستشاراً في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي بيل كلينتون.
أتت الأزمة العالمية، وعاد الكثيرون للتفكير فيما قاله روبيني وقلة آخرون قبل حدوثها. الأزمة جعلت من روبيني المولود في إستانبول، لأبوين من يهود إيران، وعاش وتلقى تعليمه في إيطاليا ودرس في ''هارفارد''، نجماً لا يشق له غبار. فهو الآن ضيف شبه يومي على شاشات القنوات التلفزيونية، وفي أهم المؤتمرات الاقتصادية العالمية، التي تجمع صفوة صانعي القرار الاقتصادي العالمي، كمؤتمر دافوس مثلاً. في عام 2009 وعندما هبت دول العالم للتعامل مع الأزمة، تمسك روبيني وقلائل آخرون بفكرة الركود المزدوج، على الرغم من معارضة الكثيرين له في ذلك، بما في ذلك أكثر الاقتصاديين اللامعين في مجال البحث الاقتصادي. بدأت بوادر أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو في أيار (مايو) من عام 2010، وبدأت التكهنات حول احتمالات إفلاس اليونان. بدأ الأوروبيون في محاولة لملمة الأمور في منطقة اليورو، ودخلوا في برنامج التمويل الإقراضي المشترك على أساس رفض فكرة إفلاس اليونان على الإطلاق، لكن روبيني وآخرين أكدوا استحالة تحقيق ذلك دون الاتفاق على إعادة هيكلة لديون اليونان. كان روبيني يصر في كل مرة على أن هناك مشكلة تنافسية competitiveness في أوروبا، ويجب معالجتها من جذورها لكي تعود الأمور إلى نصابها، وتستطيع أوروبا ومنطقة اليورو الثبات في وجه العاصفة. كانت آراؤه تتضمن أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بقبول إعادة هيكلة الديون، وكان من القلائل الذين طرحوا فكرة خروج اليونان من اليورو بشكل قوي.
الظروف مرة أخرى عادت وأثبتت صحة ما دعا إليه روبيني، وبدأ الأوروبيون يتحدثون في تموز (يوليو) من عام 2011 عن قبول فكرة إعادة هيكلة اليونان ولأول مرة، واتفقوا على قبول المؤسسات المالية الدائنة خصما على ديونها لليونان بنسبة 21 في المائة. ثم استمرت الظروف بالتدهور مرة أخرى، وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قبل الأوروبيون خياراً صعباً يتمثل في خصم نسبته 50 في المائة على ديون اليونان. ومرة أخرى تثبت الأحداث صحة ما ذهب إليه روبيني وقلة آخرون من صف المتشائمين. في مناسبة أخرى تتعلق بما يحدث في إيطاليا، التي عاش فيها أكثر من 20 عاماً، يثبت روبيني صحة تنبؤاته حول ما يمكن أن يؤول الوضع إليه هناك. ففي ندوة مشتركة شارك فيها في مؤتمر دافوس في عام 2006 إلى جانب كل من رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق جان كلود تريشيه، ووزير المالية الإيطالي ونائب رئيس الوزراء تريمونتي، حول مستقبل منطقة اليورو واحتمالات فشلها وكيفية تجنب ذلك وما الدول التي ستخرج منها في حالة فشلها، لم تسر الأمور على ما يرام كالعادة بالنسبة لروبيني. فقد توقع روبيني خلال هذا المؤتمر خروج إيطاليا ودول أخرى من الدول ذات الأداء الاقتصادي الضعيف من منطقة اليورو إذا لم تقم بإصلاح حقيقي لأوضاعها الاقتصادية. هذا بالطبع آثار حنق وزير المالية ونائب رئيس الوزراء الإيطالي عليه، وقال له (شكراً على آرائك، عد إلى تركيا)، مشيراً إلى مكان مولده الأصلي.
الظروف الآن تغيرت، الحكومة الإيطالية تغيرت، دول الأداء الاقتصادي الضعيف في منطقة اليورو كاليونان والبرتغال وإيطاليا وغيرها، تجد نفسها تحت ضغط ورحمة دول الأداء الاقتصادي القوي في منطقة اليورو، وهذا بالطبع ما أشار إليه روبيني. مرة أخرى الواقع يثبت توقعات روبيني، ولو قدر للوزير الإيطالي أن يستمع في ذلك الوقت، لكان من الممكن تجنب ما يحدث الآن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي