رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


في المنظمات المُحبِطة.. لا تؤدِّ عملا دون مقابل

تطرقت في سلسلة مقالات سابقة عن الوضع الإداري للمؤسسات المحبطة القاتلة للإبداع والخانقة للمواهب. ففي المقال الأول بينت طريقة هذه المنظمات في إدارتها لموظفيها وبعدها المتعمد عن تطبيق الإدارة العلمية. وفي المقال الذي يليه عرضت أبرز ملامح هذه المؤسسات ومنها شعور موظفيها بالغربة وأخذها شكل المنظمات المغلقة التي تعشق العمل في الظلام. وفي مقال ثالث عرضت بعض الآليات التي قد تعين الموظفين الذين يعملون في هذه البيئات المحبطة، وقد قسمت ذلك إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى الانتقال إلى بيئة تحترم العقول والنفوس، فإن لم يستطع الموظف إلى ذلك سبيلا فليحاول في التقاعد المبكر، فإن عجز فليأخذ على عاتقه مهمة الإصلاح وهذه الأخيرة قد تكلفه الكثير. وفي آخر مقال من هذه السلسلة ـــ نشر قبل عدة أسابيع ـــ بينت أن أهم تقنية ينبغي للموظف إتقانها إذا عجز عن النقل، أو التقاعد، أو الإصلاح ولم يكن أمامه بديل سوى البقاء في عمله والرضا بما قسم الله له هو إحاطة نفسه بهالة من الغموض أي يصطنع الغموض. فقد بينت أن الموظف إن لم يستطع الابتعاد عن البيئة المحبطة التي يعمل بها فما عليه سوى التكيف مع الأوضاع المحيطة وقبول البيئة التنظيمية بكل عثراتها وسلبياتهما ولكن عليه أن يجيد عددا من التقنيات التي تعينه على حماية نفسه وسمعته ومصدر رزقه وأبرزها وأهمها إحاطة نفسه بهالة من الغموض، فهالة الغموض هذه أكبر مصدر للقوة في بيئة لا تقبل الضعفاء.
وفي هذا المقال أريد أن أخطو خطوة أخرى إلى الأمام وأبين بعض التقنيات الأخرى التي أراها فعالة، وقد تعين الموظفين على التعايش في البيئات المحبطة. بعد إتقان مهارة الغموض تأتي تقنية عدم إسداء الخدمات والأعمال مجانا دون مقابل. ففي هذا النوع من المنظمات لا يعترف أبدا بالعمل التطوعي ولا تقدر مثل هذه المنظمات صنيع الآخرين ولا يمكن أن يدخر لهم هذا في يوم ما. العمل التطوعي في هذا النوع من البيئات التنظيمية ينظر إليه على أنه سذاجة وضعف، كما أن إسداء الخدمات دون مقابل يتنافى أصلا مع خصائص الخدمات. فمن خصائص الخدمات أن أثمانها تتهاوى سريعا بعكس السلع والمنتجات العينية الملموسة التي تخضع أثمانها إلى الارتفاع، أو الانخفاض، أو البقاء كما هي.
فإذا كنت تعمل في هذا النوع من المنظمات فعليك أن تعرف هذه الحقيقة وأن تتحاشى العمل التطوعي ومساعدة الآخرين وتقديم الخدمات داخل المنظمة دون مقابل. فإن قدمت خدمة فعليك أن تقبض ثمنها قبل إسدائها، فإن لم تستطع فالتحصل على تعهد يضمن لك ثمنها بعد إسدائها مباشرة، وعليك ألا تؤخر قبض الثمن ولو لساعات فإن طبيعة الخدمات في البيئات المحبطة أن أثمانها تتهاوى وتتناقص بسرعة مذهلة مجرد إسدائها وأعلى قيمة لها قبل أن تؤديها.
ولكن ليس معنى هذا أن تُخل في عملك بل ينبغي أن تؤديه بكل إتقان ومحبة وإخلاص، فأي خلل قد يحدث قد تدفع ثمنه غاليا خصوصا أنك تحت المجهر وكل خطواتك داخل المنظمة ترصد عليك وتحسب ضدك وتُؤول مهما كانت النية وراءها. وهذا يقودنا إلى الخطوة التالية وهي توثيق العمل والإجراءات والمهام التي تقوم بها مهما كانت هينة. عليك أن توثق إنجازاتك وأعمالك ولا تدع أي عمل مهما كان بسيطا دون توثيق، فطبيعة هذه المنظمات أنها تحكم على الإنجازات وتقدير الانحرافات بناء على درجة الولاء، وليس لحسن النية مجال هنا.
ومن التقنيات الفعالة للعيش بسلام داخل المنظمات المحبطة أن تتحاشى نقد المنظمة التي تعمل بها مباشرة أمام الناس، أو في المحافل، أو الاجتماعات الخارجية. فتبيان عورة المنظمة التي تعمل بها بطريقة مباشرة قد يسيء لك قبل أن يسيء للمؤسسة المحبطة التي تعمل بها، وقد ينظر إليك على أنك غير أمين على أسرار العمل وغير وفي بالتزاماتك الوظيفية، وعندما ترغب في الانتقال إلى مكان آخر فإن الكل سيتحاشى استضافتك وقبولك للعمل معه طالما أن سجيتك هي كشف عيوب المؤسسة التي تعمل بها. ولكن ليس معنى هذا أن تمتدح رسالتها، وتروج لأهدافها، وتتبنى تسويق إنجازاتها فإن فعلت فإن هذا لا يخرج كونه تملقا يفهم قبل أن يخرج من فمك وقد تنقلب الدائرة عليك. المهم أن تتحاشى النقد المباشر للمنظمة التي تعمل بها وفي الوقت نفسه لا ترغم نفسك على تعظيم إنجازاتها إذا كنت غير مقتنع بما تفعله. وإن طلب رأيك وتقييمك فلتتبع مقولة أبي الدبلوماسية وزير خارجية الولايات المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي "هنري كيسنجر" عند روج البعض عن الدبلوماسية في ذلك الوقت وعرفها البعض بأنها علم الكذب والنفاق. فأنكر كيسنجر ذلك وأصّل تعريفا للدبلوماسية في كتابه الشهير وذكر أن الدبلوماسي المحنك هو الذي لا يكذب ولكنه يتحاشى قول الحقيقة. وهذا ما يجب أن تفعله بالضبط عندما يسألك أحد عن منظمتك المحبطة التي تعمل بها فعليك ألا تعظم إنجازاتها إذا كنت غير مقتنع، وفي الوقت نفسه لا تكشف سوءتها فعمل كهذا قد يخرجك من الحرج ويحفظ لك شخصيتك الهادئة وينظر إليك بإعجاب فهم يعلمون عنها أكثر مما تعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي