المنافسة تحقق العدالة والكفاءة الاقتصادية
للمنافسة الاقتصادية دور مهم في تحقيق التوازن الاقتصادي، وتعزيز النمو، من خلال حفز الناس على البحث عن الفرص الاستثمارية، وخلق فرص عمل جديدة. كما أن للمنافسة الاقتصادية بعدا آخر يتمثل في تحقيق العدالة الاقتصادية التي تقتضي إتاحة الفرص الاقتصادية المحدودة بشكل عادل ومتوازن لجميع أفراد المجتمع، وتوزيعها بناءً على آلية تضمن توظيف هذه الفرص بشكل أكفأ، وبما يحقق أعلى قيمة مضافة للاقتصاد. أي أن موضوع المنافسة ذو بُعدين مهمين في الاقتصاد، بعد يتعلق بالكفاءة الاقتصادية، والبعد الآخر يتعلق بالعدالة الاجتماعية في توزيع الفرص الاقتصادية بين أفراد المجتمع.
وشدني لهذا الموضوع تعليق لأحد القراء على مقال للزميل فواز الفواز بعنوان (المنافسة كمصدر للعدالة الاقتصادية)، الذي يتضمن مفاهيم مهمة وأساسية حول دور المنافسة في السوق في نشر العدالة الاقتصادية بين أفراد المجتمع. حيث أشار القارئ إلى (أنه إذا كانت الأرض تمنح والرخصة تمنح فالنتيجة خلق مشكلة الكل يعانيها ولو بدرجة متفاوتة). هذا التعليق يأتي في صلب المشكلة الاقتصادية التي يواجهها اقتصادنا ويجعله يسير بوتيرة لا تتناسب مع إمكاناته المادية والبشرية التي يتمتع بها، مقارنة باقتصادات نامية وصاعدة أخرى. فنحن هنا لا نواجه بمشكلة عدالة فقط بسبب تقويض المنافسة، لكن ذلك يترجم أيضا إلى التأثير في النمو الاقتصادي.
مبدأ (المنح) الذي تطرق إليه القارئ، هو أحد العوامل التي قوضت، وما زالت تقوض المنافسة بكل أشكالها، وأدت إلى ترسيخ الاحتكار في كثير من قطاعاتنا الاقتصادية، سواء في قطاع النقل، أو في قطاع العقار، أو في قطاع الخدمات العامة، أو حتى في المشاريع الحكومية. وهذا أدى بدوره إلى تراجع في مستوى هذه الخدمات، ومحدودية في قدرة الاقتصاد على التوسع في القطاعات المحتكرة، ما حد من عملية خلق فرص استثمارية جديدة، وبالتالي خلق فرص عمل جديدة. تطبيق مبدأ المنح ببساطة يلغي جميع الحوافز الاقتصادية لتحقيق أعلى قيمة مضافة، ويسهم في ترسيخ اقتصاد الريع، الذي أشرت إليه في أكثر من مقال سابق، بحيث تصبح عملية البحث والحصول على الريع rent seeking، محور ومرتكز العملية الاستثمارية، بينما يتم إهمال مبدأ وفكرة ريادة الأعمال entrepreneurships، التي تعد أكبر محفز للنمو الاقتصادي.
وهذا بدوره، جعل اقتصادنا يسير بوتيرة نمو تقل عن الدول النامية والصاعدة الأخرى، ففي حين تشير التوقعات إلى استمرار نمو كل من الصين والهند وفيتنام وبنجلادش وإندونيسيا، بمعدلات تتجاوز 6 في المائة في المتوسط خلال السنوات الخمس المقبلة، فإن المملكة ودول الخليج الأخرى ستنمو بمعدلات نمو تراوح بين 4 و5 في المائة. للقارئ الكريم كل الحق هنا أن يتساءل عن سبب عدم قدرتنا على اللحاق بركب هذه الدول في تحقيق معدلات نمو عالية تتناسب مع إمكاناتنا الاقتصادية. وقد يتساءل القارئ الكريم أيضا حول كيفية ترجمة مبدأ المنافسة إلى بعدها الاقتصادي المتمثل في معدلات نمو أعلى في الاقتصاد؟
هنا أود أن أشير إلى أن هناك عوامل اقتصادية تؤثر في النمو الاقتصادي على المدى القصير، بينما هناك عوامل أخرى تؤثر في النمو الاقتصادي على المدى الطويل. جوانب السياسة المالية والنقدية تستهدف المديين القصير والمتوسط، وتركز على تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي، وتحقيق استقرار الأسعار، والمحافظة على مستوى مرتفع من التوظف. على الجانب الآخر تستهدف سياسات الاقتصاد الهيكلية - كتنظيم سوق العمل، وقطاعات الخدمات، والتجارة، والصناعة، والتشريعات المنظمة لهذه القطاعات - تعزيز النمو الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل. والمنافسة تعد جزءا أساسيا من عملية الإصلاح الهيكلي التي تعزز إمكانات الاقتصاد، وتزيد من احتمالات النمو الاقتصادي، وتسهم في توظيف الموارد الاقتصادية توظيفاً أمثل، على المدى الطويل.
القضية التي يواجهها اقتصادنا قضية منافسة بالدرجة الأولى، وتنسحب التأثيرات السلبية لها على المدى القصير والمتوسط والطويل على الاقتصاد. فعندما لا تكون هناك منافسة عادلة في قطاع العمل، فهذا سيؤدي إلى أن اختلال في مستويات الأجور، بحيث لا تعكس الإنتاجية الحقيقية للعامل. وعندما لا تكون هناك منافسة حقيقية في قطاع العقار، فلن تعكس أسعاره السعر التوازني المتمثل في توازن القيمة التي يستعد الأفراد لدفعها مع القيمة التي يستعد البائعون لقبولها، بل ستكون انعكاسا لقدرة المحتكر على التحكم في العرض، والحصول على ما يطلق عليه الاقتصاديون (الريع)، وهو قيمة أعلى مما يعكسه السعر التوازني المتمثل في نقطة التقاء العرض مع الطلب.
الإصلاح الاقتصادي يتطلب تركيزا على سياسات الإصلاح الهيكلي، بما يضمن منافسة عادلة في جميع القطاعات الاقتصادية، وبما يحقق العدالة الاجتماعية بين الأفراد. ولا يمكن أن يتم تحقيق ذلك إلا بأن تكون الأسعار انعكاسا بدرجة كبيرة نسبياً للتوازن بين العرض والطلب الحقيقي في حالة المنافسة. ما يحدث على أرض الواقع، يدل على أن الأسعار في كثير من القطاعات تعكس سعر المحتكر بالدرجة الأولى، سواءً كان هذا المحتكر حكومة أو فردا.