اليورو في أزمة ثقة
تحولت أزمة منطقة اليورو من أزمة في اليونان إلى أزمة ديون سيادية في منطقة اليورو برمتها، ثم انتقلت لتصبح الآن أزمة مالية في المصارف الأوروبية. وفي كل المحادثات بين دول منطقة اليورو لمعالجة هذه الأزمة، منذ أن بدأت في أيار (مايو) من عام 2010، كانت حالة الغموض والاضطراب تزداد يوما بعد يوم، ويزيد على أثر ذلك حالة القلق والاضطراب في الأسواق المالية. اليوم منطقة اليورو برمتها تشهد أزمة ثقة بقدرتها على الصمود في وجه المزيد من الضغوط التي تواجهها للخروج من أزمتها. أسئلة يطرحها الكثيرون بناءً على ذلك: فهل تستمر منطقة اليورو؟ أو هل يمكن أن تخرج بعض دول منطقة اليورو من الاتحاد النقدي؟ أي من الدول التي ستخرج: الدول الكبرى أم الدول الصغيرة؟ أسئلة معقدة ومحيرة. المستشارة الألمانية والرئيس ساركوزي ما زالا يؤكدان تماسك منطقة اليورو، لكن إلى أي مدى يمكن للمنطقة الصمود، وما السعر الذي يجب دفعه لأجل ذلك؟
أسئلة من الصعب الإجابة عنها، فما تواجهه منطقة اليورو، كما ذكرت، أكبر من أزمة الديون السيادية أو أزمة المصارف، التي يمكن التغلب عليها باتخاذ القرار الصحيح. فالمشكلة الآن أصبحت أزمة ثقة بجدية الأوروبيين الأعضاء في منطقة اليورو على مواجهة مشكلاتهم بشكل حاسم، وعلى قدرة كل منهم على تحمل مسؤولياته. الثقة بالآليات والمنهجية المتبعة للحوكمة في منطقة اليورو هي الأكثر تضررا، حيث إن قرارا مثل تعزيز آلية الاستقرار المالي الأوروبي الذي أقر في 21 تموز (يوليو) 2011، تطلب موافقة 17 برلماناً أوروبيا للموافقة عليه، وإلى تاريخ كتابة هذا المقال، فقد وقفت سلوفاكيا الدولة الأصغر في المنطقة - التي يشكل عدد سكانها ما نسبته 2 في المائة من عدد السكان في منطقة اليورو، وناتجها المحلي الإجمالي 1 في المائة من إجمالي الناتج لمنطقة اليورو - في وجه هذا القرار في أول تصويت عليه في البرلمان السلوفاكي، وينتظر أن يصوت عليه مرة أخرى يوم الجمعة.
النقاش والجدل الكبيران حول مشكلة اليونان أبرزا اختلافات منهجية كبيرة بين الشركاء الكبار في منطقة اليورو للتعامل مع الأزمة، وهو الأمر الذي غيّر النظرة بشكل كبير حول النموذج الأوروبي للوحدة النقدية. بالطبع، ليس المجال هنا للوم الأوروبيين على عدم التفكير في هذه الأمور عند قيام مشروع الوحدة، لكن الأمر الذي أعتقد أنه أغفل بشكل كبير، هو تناسب حجم المسؤوليات مع حجم المنافع من الوحدة النقدية. الشركاء الكبار في مشروع الوحدة، كألمانيا وفرنسا، يفترض أن يتحملوا أعباء كبيرة نتيجة الوحدة النقدية، كما أنهم سيحصلون على فوائد كبيرة منها. لكن أزمة اليونان جعلتهم يترددون كثيرا في تحمل مسؤولياتهم، فألمانيا لا تريد أن تدعم اليونان على حساب دافعي الضرائب الألمان، وفرنسا تضع أولوية كبرى ضد عملية إفلاس أو إعادة هيكلة الديون السيادية اليونانية؛ لأنها ستؤثر بالدرجة الأولى في مصارفها. لذلك، فقد كان الطريق الأسهل سياسيا هو تطبيق برنامج تقشفي أكثر بكثير مما يتحمله الاقتصاد والمجتمع اليوناني، ما دفع باليونانيين إلى الشوارع، وما عقد من عملية تنفيذ البرنامج الإصلاحي لليونان.
الدخول في الوحدة النقدية يقتضي أن يكون هناك تحمل مشترك للمسؤوليات، كما أن هناك جنيا مشتركا للفوائد. والمنطق يقول إنه لا يمكن لليونانيين وحدهم تحمل أخطائهم وأخطاء المنهج المنقوص الذي اتبع لتنفيذ برنامج الوحدة. فحسب الاقتصادي المعروف مارتن وولف - أنه عند تنفيذ برنامج الوحدة النقدية، كان هناك افتراض خاطئ يقتضي أنه لا يمكن حدوث أزمة في موازين المدفوعات في الوحدة النقدية بسبب عملية التكيف الآلي لهذه الموازين بين دول الوحدة النقدية. بمعنى آخر، إن دول الفائض في موازين المدفوعات ستقوم بتمويل دول العجز بشكل آلي، وهو ما لا يمكن حدوثه إلا بوجود استعداد سياسي Political Well للقيام بذلك. المشكلة أن الأوروبيين الكبار، عندما صوتوا على مشروع الوحدة النقدية وعندما جروا خلفهم الدول الصغيرة التي شجعت على دخول مشروع الوحدة، لم يكونوا مستعدين لحدوث ذلك سياسيا.
وبناءً على ذلك، فإن الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها في بداية المقال تتطلب الانتظار كي نرى ما يمكن أن تسفر عنه نتائج المباحثات القادمة لقادة منطقة اليورو، التي ستعقد في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 2011. لكن ما لا شك فيه الآن، أن ما تعانيه دول منطقة اليورو حاليا هو أزمة ثقة في قدرتها على مواجهة الالتزامات التي ترتبها الوحدة النقدية عليها، فافتقاد منطقة اليورو القدرة على التكيف الداخلي فيما بينها، واعتمادها على التمويل الخارجي لمعالجة مشكلات دولها، جعلاها عرضة لرحمة الأسواق والمستثمرين فيها. ولا سبيل لاستعادة الثقة إلا بمراجعة شاملة لتشريعات وآليات الحوكمة في الاتحاد النقدي الأوروبي، لزيادة مرونة اتخاذ القرار، والاتفاق على توزيع واضح ومقبول سياسيا للأعباء والمسؤوليات.