تعزيز تدويل هيبتنا الوطنية
قيس بن الملوح ''مجنون ليلى'' شاعر غزل، من المتيمين، من أهل نجد. لم يكن مجنوناً، إنما لقب بذلك لهيامه في حب ليلى بنت سعد، التي نشأ معها إلى أن كبرت وحجبها أبوها فهام على وجهه ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش، فيرى حيناً في الشام، وحيناً في نجد، وحينا في الحجاز، إلى أن وجد ملقى بين أحجار وهو ميت فحمل إلى أهله.
لم يتمالك ''مجنون ليلى'' نفسه خلال هيامه في أرض جزيرة العرب بعد صدمته النفسية بحجب ليلى عندما وجد الواشون ينثرون كلاما مغلوطا عن جمال ليلى ومآثر بني عامر، ففاضت قريحته بقصائد حفرت في ذاكرة الأدب العربي إلى اليوم في الدفاع والذود عن مكامن جمال معشوقته ليلى وبطولات قبيلته بني عامر. لم يكن الدور الذي أداه ''مجنون ليلى'' خلال رحلة هيامه سوى دور إعلامي خارجي ذكي نافذ أسهم، أولاً، في الهجوم الاستباقي على الوشاة، وثانياً في الدفاع الإلحاقي عن إخفاقات الموشى بها.
دور وطني طموح أسهم في بناء هوية ليلى خارج نجد، وصنع رهبة في نفوس أهل الجزيرة العربية من بطولات بني عامر. يجسد دور ''مجنون ليلى'' ما يفترض أن يكون عليه الإعلام الخارجي السعودي في تطوير الهوية السعودية وصناعة الرهبة الوطنية بما يخدم الثقل الديني والاقتصادي والسياسي السعودي على المستويين الإقليمي والدولي. مشروع وطني طموح يستأنس الوقوف على واقع منظومة الإعلام الخارجي السعودي. الدافع خلف هذه الوقفة أهمية التعرف على الواقع وجذوره التاريخية كنقطة بداية نحو التوصية بملامح منظومة إعلام خارجي سعودي حديثة تسهم بشكل أكثر فاعلية في تطوير الهوية السعودية وصناعة الرهبة الوطنية.
تستلزم هذه الوقفة توضيح أمرين رئيسين، الأول، تعريف عناصر عملية الاتصال البشري. تتألف عملية الاتصال البشري من خمسة عناصر: الأول، المرسل، وهو الشخص الذي يرسل الرسالة، الثاني الرسالة، وهي المحتوى الذي يريد المرسل إرساله، الثالث الوسيلة، وهي الأداة التي يستخدمها المرسل لإرسال رسالته، الرابع المستقبل، وهو الشخص الآخر الموجه إليه رسالة المرسل، والخامس الجهاز، وهو المحيط الذي تتفاعل فيه العناصر الأربعة أعلاه. والأمر الرئيس الثاني التفرقة بين دور الإعلام الداخلي والإعلام الخارجي. يختلف مفهوم الإعلام الخارجي عن الإعلام الداخلي في ثلاثة جوانب: الأول تاريخي، كون الإعلام الخارجي مفهوما تاريخيا عريقا عرفته المجتمعات البشرية منذ القدم. والثاني وظيفي، كون الإعلام الخارجي أداة مكملة لتنفيذ السياسة الخارجية. والثالث، تشغيلي، كون الإعلام الخارجي يعمل في هامش خطأ ضيق جدا.
عديدة هي الفوائد عندما ننظر نظرة تاريخية من زاوية هذين الأمرين الرئيسين أعلاه إلى واقع الإعلام الخارجي السعودي منذ نشأته مطلع القرن الماضي حتى اليوم. ظهرت في تاريخ الإعلام الخارجي السعودي منذ العشرينيات الميلادية من القرن الماضي حتى اليوم عشر حركات إعلامية: الحركة الإعلامية الأولى، ''التدويل الإعلامي''، (1926 إلى 1980). باكورة نشاط الإعلام الخارجي السعودي بتأسيس ''إدارة المطبوعات والخابرات'' في 1926، فـ ''إدارة المطبوعات والصحافة'' في 1930. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''مديرية الشؤون الخارجية''، ووضوح الرسالة، ''إزالة ما ألصق بالمملكة من حملات وإشاعات مغرضة في مراحل التأسيس الأولى''، وفاعلية الجهاز، ''وزارة المالية''. ولكن اتسمت بتواضع الوسيلة الإعلامية، ''خطابات رسمية''، والعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع مواطني الدول''، وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة مهدت الطريق نحو ظهور الحركات التالية.
الحركة الإعلامية الثانية، ''النشأة الحكومية'' (1930 إلى 1960). بدأت الحركة بإنشاء ''مجلس دعاية الحج'' في 1936، فصدور جريدة ''أم القرى'' في 1942، فبداية البث الإذاعي في 1948، فإنشاء ''المديرية العامة للصحافة والإذاعة والنشر'' في 1958، وانتهاءً بإصدار ''نظام المطبوعات والنشر'' في السنة ذاتها. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''مجلس دعاية الحج''، ووضوح الرسالة، ''جهود المملكة في خدمة الحجيج''، وفاعلية الوسيلة الإعلامية، ''الصحافة''. لكن اتسمت بعمومية شريحة المستقبل، ''جميع مواطني الدول الإسلامية وغير الإسلامية''، وتواضع فاعلية الجهاز بعدم وجود عنصر الثبات التنظيمي. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة مهدت الطريق نحو تنظيم العمل الإعلامي الحكومي.
الحركة الإعلامية الثالثة، ''صحافة الأفراد''، (1930 إلى 1960). عملت الحركة بشكل متواز مع الحركة الإعلامية الثانية، ''النشأة الحكومية'' أعلاه. اتسمت الحركة بقوة رسالتها، ''التفاعل مع الحركات الأدبية والسياسية الراهنة''، وفاعلية الوسيلة، ''الصحافة''. لكن اتسمت الحركة بعمومية شريحة المستقبل، ''جميع مواطني الدول الإسلامية وغير الإسلامية''، وتواضع فاعلية الجهاز بتواضع قوة تأثير المرسل في المستقبل، ''مجموعة من المثقفين السعوديين''، والعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع المتأثرين بحركات الاستقلال والقومية العربية على اختلاف ثقافاتهم الأيديولوجية''، وعدم وجود جهاز حكومي مساند. وعلى الرغم من ذلك إلا أن الحركة مهدت الطريق فيما بعد لظهور الحركة الإعلامية الحادية عشرة، ''الإعلام الفردي''، (2000 إلى اليوم).
الحركة الإعلامية الرابعة، ''الدمج الصحافي''، (1960 إلى 1990). بدأت الحركة بصدور نظام ''المؤسسات الصحافية الأهلية'' في 1963، فبث محطتي ''الجيش الأمريكي''، و''أرامكو'' التلفزيونية، فأزمة الخليج الثانية في 1990. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''المؤسسات الصحافية''، وفاعلية الرسالة، ''الصحافة والتلفاز''، ووجود جهاز إداري حكومي يشرف على الأداء. لكن اتسمت الحركة بتواضع محتوى الرسالة، ''الثقافة والترفيه''، وعمومية شريحة المستقبل، ''جميع المواطنين والجاليات''. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة مهدت الطريق نحو قيام العمل الإعلامي المؤسسي الحكومي.
الحركة الإعلامية الخامسة، ''التنظيم الوزاري''، (1962 إلى 1976). بدأت الحركة بإنشاء ''وزارة الإعلام'' في 1962، فـ ''وكالة الأنباء السعودية'' في 1970، وصولاً إلى إطلاق بث ''التلفزيون السعودي'' في 1976. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''وزارة الإعلام''، لكن اتسمت بتواضع الرسالة، ''الاستمرار في تحسين صورة المملكة في العالمين العربي والإسلامي''، وتواضع الوسيلة في عدم استثمار وسائل العالم العربي والإسلامي الإعلامية الأخرى، والعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع مواطني العالمين العربي والإسلامي''، وحداثة تجربة الجهاز الإعلامي. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة عملت كحقل تجارب نحو امتداد الإعلام السعودي إلى العالم الدولي.
الحركة الإعلامية السادسة، ''الأنشطة الوزارية''، (1958 إلى اليوم). بدأت الحركة من خلال إدارات العلاقات العامة في الوزارات والمؤسسات الحكومية الحديثة. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''المؤسسات الحكومية''. لكنها عانت تواضع عناصر الاتصال الأربعة الأخرى، عمومية الرسالة، ''التعريف بالأنشطة الوزارية المختلفة''، وضعف انتشار الوسيلة، ''مجالات دورية خاصة''، وعمومية المستقبل، وتشتت الجهاز الإعلامي. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن إنتاجها الإعلامي على المستوى الدولي يجعلها مع قائمة الحركات المنتهية أعلاه.
الحركة الإعلامية السابعة، ''الإعلام الخارجي المتخصص''، (1960 إلى 1990) بدأت الحركة بإنشاء ''مديرية الإعلام الخارجي'' ضمن ''وزارة الإعلام'' في 1976، ثم تطورت المديرية لتصل اليوم إلى ''وكالة وزارة الثقافة والإعلام للإعلام الخارجي''. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''وزارة الثقافة والإعلام''، وفاعلية جهاز الاتصال. لكن اتسمت الحركة في الوقت ذاته بجمود الرسالة، ''تحسين صورة المملكة''، وتواضع الوسيلة في عدم استثمار الوسائل الإعلامية الدولية، والعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع الدول الشقيقة والصديقة''. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة أسهمت في التعرف على احتياجات الإعلام الخارجي المستقبلية.
الحركة الإعلامية الثامنة، ''إعلام الشؤون الخارجية''، (1980 إلى اليوم). بدأت الحركة داخل أروقة ''وزارة الخارجية'' بإنشاء ''إدارة الشؤون الإعلامية'' ثم تطورت إلى أن وصلت إلى بيانات ومؤتمرات إعلامية شبه يومية. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''وزارة الخارجية''، ومنهجية الرسالة، ''توضيح وجهة نظر المملكة في القضايا الراهنة''، وفاعلية الوسيلة، ''جميع الوسائل الإعلامية الممكنة''، وفاعلية الجهاز الإعلامي، لكن اتسمت الحركة في الوقت ذاته بعمومية شريحة المستقبل، ''الأفراد، والحكومات، والمؤسسات الدولية''. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة بدأت تعمل جنبا إلى جنب كأداة تكميلية للسياسة الخارجية.
الحركة الإعلامية التاسعة، ''الإعلام الاستثماري''، (1990 إلى اليوم). بدأت الحركة كرد فعل لموجة النقد التي واجهتها المملكة من العالم العربي والإسلامي والمتزامنة مع حرب الخليج الثانية حول سياسات المملكة العسكرية. بدأت الحركة بالإطلاق التدريجي لمجموعة من محطات البث التلفزيوني الفضائي. اتسمت الحركة بقوة تأثير المرسل، ''قنوات فضائية''، وفاعلية الرسالة، ''أمن المقدسات وسلامة مصادر الطاقة''، وفاعلية الوسيلة، ''قنوات فضائية''. لكن اتسمت الحركة في الوقت ذاته بالعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع دول العالم''، وحداثة تجربتي البث الفضائي والاستثمار الإعلامي. وعلى الرغم من ذلك، إلا أن الحركة أسهمت في توضيح وجهات نظر المملكة، ومهدت الطريق نحو ظهور ما يسمى اقتصاديات الإعلام.
الحركة الإعلامية العاشرة، ''الإعلام الفردي''، (2000 إلى اليوم). بدأت الحركة مطلع العقد الحالي بانفجار في ثقافة البث الفضائي والإعلام التفاعلي المعتمد على استثمارات القطاع الخاص السعودي. اتسمت الحركة بفاعلية الوسيلة، ''قنوات فضائية''. ولكن اتسمت الحركة في الوقت ذاته بتواضع قوة تأثير المرسل، ''مستثمرين متنوعين''، وتواضع الرسالة، ''غزارة في الإنتاج وضعف في التركيز''، والعمومية في شريحة المستقبل، ''جميع المشاهدين في أنحاء العالم''، وحداثة تجربة الإعلام التفاعلي.
توضح الوقفة المختصرة على جذور الإعلام الخارجي السعودي وواقعه مكونات منظومة الإعلام الخارجي السعودي القائمة. يعد التعرف على هذه المقومات نقطة بداية نحو التوصية بملامح منظومة إعلام خارجي سعودي حديثة تسهم بشكل أكثر فاعلية في تطوير الهوية السعودية وصناعة الرهبة الوطنية بما يخدم الثقل الديني والاقتصادي والسياسي السعودي على المستويين الإقليمي والدولي.