اقتصادنا السعودي تحت مجهر صندوق النقد
مسقبل مشرق لا يخلو من التحديات مع توثيق الجهود المحلية القائمة حملها تقرير المراجعة السنوي عن الاقتصاد السعودي الصادر مطلع الأسبوع الحالي عن صندوق النقد الدولي. تزامن صدور التقرير مع انعقاد الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في العاصمة الأمريكية واشنطن. يقودنا ما صدر في التقرير من استشراق لمستقبل الاقتصاد السعودي وبحث في تحدياته القائمة للتعرف بشكل أكثر تفصيلاً عن تطورات الاقتصاد السعودي من المنظور الدولي.
أشار التقرير إلى متانة الاقتصاد السعودي على المدى القريب مدعومةً بنمو الطلب في سوق النفط العالمية والتطورات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط. أسهمت هذه التغيرات في زيادة أسعار النفط في السوق العالمية وكمياتها المنتجة من الدول المصدرة وعوائد مبيعاته على الاقتصاد السعودي.
دعمت هذه الإشارة الإيجابية المستويات المتقدمة التي سجلها الاقتصاد السعودي في مجموعة من المؤشرات الاقتصادية والتنموية. حيث سجل الاقتصاد السعودي تحسّنا ملحوظا في مؤشر التنمية البشرية عندما تطّور من مستوى 5.5 نقطة في 1980 إلى 7.5 نقطة في 2010، ملامساً بهذا التطّور متوسط مؤشر التنمية البشرية في دول مجموعة العشرين. الدافع خلف هذا التحسّن تسجيل الاقتصاد السعودي معدلات نمو في أفرع مؤشر التنمية البشرية الثلاثة. حيث تحسّن معدل حياة الفرد السعودي من 60 عاما في 1980 إلى 74 عاما في 2010، وتحسّن معدل أعوام التعلّم للأطفال السعوديين من خمسة أعوام في 1980 إلى 12 عاما في 2010، وانخفاض معدل وفيات الأطفال من 44 حالة وفاة لكل ألف حالة ولادة في 1980 إلى 21 حالة وفاة لكل ألف حالة ولادة في 2010.
سجل الاقتصاد السعودي تحسّنا ملحوظا كذلك في معدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي من 0.1 في المائة في 2009، مروراً بـ 4.1 في المائة في 2010، وتوقع وصوله معدل نمو 6.5 في المائة نهاية العام الحالي عند 2.138 مليار ريال سعودي. حظيت مؤشرات الحراك التجاري كذلك بقدر من التحسّن خلال العامين الماضيين بسلوكها اتجاها تصاعديا بعد عامين من التراجع خلال 2008 - 2009. يمكن التعرف بشكل أكثر على هذه المؤشرات من خلال قراءة تاريخية لمستويات الائتمان المصرفي وأحجام عمليات نقاط البيع في محال التجزئة في السوق التجارية السعودية. لم يكن القطاع المصرفي بمنأى عن هذه التطورات، حيث زادت ودائع العملاء في القطاع المصرفي بمعدل 5 في المائة في 2010، وزاد حجم التمويل للقطاع الخاص والعام بمقدار 5 في المائة و15 في المائة، على التوالي، في 2010، وانخفض معدل الديون غير العاملة بمعدل 3 في المائة في 2010.
وعلى الرغم مما قدمه تقرير صندوق النقد الدولي عن الأداء السنوي للاقتصاد السعودي، إلا أنه سلّط الضوء على مجموعة من التحديات نذكر ثلاثة منها. التحدي الأول، احتمالية تراجع ''أسعار النفط'' في السوق العالمية وانعكاسات هذا التراجع على مستوى عائدات النفط السعودي وجدولة تنفيذ مشاريع البنى التحتية وحجم الإنفاق الحكومي. اعتمدت هذه الخاصية على قراءة تاريخ العلاقة الطردية بين أسعار النفط وحجم الإنفاق الحكومي منذ 1993 حتى اليوم. والتحدي الثاني، ''التضخم'' وانعكاساته على مستوى رفاهية المواطن باعتباره أحد المستهدفات الرئيسة للخطة التنموية التاسعة. اعتمد التقرير على تجسيد تحدي التضخم على مسبباته في الاقتصاد السعودي، حيث عزيت الأسباب إلى زيادة السلع المستوردة للسوق السعودية، ونمو الإنفاق الحكومي، وزيادة السيولة في القطاع المصرفي السعودي. والتحدي الثالث، كفاءة ''السياسة المالية'' السعودية في الموازنة بين العائدات والنفقات بما لا يؤثر في سير الخطط التنموية التاسعة والعاشرة والحادية عشرة (2010 - 2024). وعلى الرغم من أن التقرير جسّد كفاءة السياسة المالية السعودية في التعامل مع تحديات العقد المالي، إلا أنه خلص إلى أن أدوات السياسة المالية التي تعاملت مع تحديات العقد الماضي قد لا تؤدي إلى النتائج ذاتها عند توظيفها لمعالجة تحديات العقد الحالي.
قدم تقرير صندوق النقد الدولي عن الأداء السنوي للاقتصاد السعودي مجموعة من التوصيات لصانعي القرار الاقتصادي في المملكة. من أهم هذه التوصيات أهمية احتواء النمو في مستوى تأهيل ''العمالة السعودية'' المتوقع ظهورها بشكل تدريجي في السوق السعودية في قطاعات إنتاجية تنموية تستطيع أن ترتقي لتطلعات هذه العمالة المؤهلة في الحصول على مستوى دخل سنوي يرتقي لمستويات تأهيلهم. اعتمد التقرير على هذه التوصية على هيكل قطاع العمالة السعودية وتوقعاته المستقبلية بحلول 2014، بوصول عدد العمالة السعودية إلى قرابة 5.5 مليون عامل، مقسمة إلى 60.7 في المائة ذكور و39.3 إناث، وبمعدل بطالة يقارب 5.5 في المائة. والتوصية الثانية، المداومة على معالجة نقص ''المساكن'' من خلال تطوير آليات توفير مساكن ملائمة مع تشجيع مؤسسات التمويل السعودية على التوسّع في التمويل طويل الأجل. اعتمد التقرير على هذه التوصية على مقارنة مستهدفات الخطة التنموية التاسعة باستهداف قرابة 1.25 مليون وحدة سكنية بحلول 2014 مع واقع مستويات العرض القائمة في عدد هذه الوحدات عطفاً على ندرة الأراضي المطورة ومحدودية أدوات تمويل المساكن المتوافرة. والتوصية الثالثة، زيادة ''أسعار الوقود والكهرباء'' على المستهلك المحلي لمواجهة زيادة الاستهلاك المحلي من النفط وتغيّر سلوك استهلاك الوقود للمستهلك السعودي. اعتمد التقرير على هذه التوصية على مقارنة أسعار الوقود في السوق المحلية بمثيلاتها في دول منظمة ''أوبك'' ومحاكاة لحجم العوائد المتوقعة في حالة ترشيد استهلاك الوقود في السوق المحلية.
قدم تقرير صندوق النقد الدولي عن الأداء السنوي للاقتصاد السعودي كذلك استقراء لمستقبل الاقتصاد السعودي على المدى المتوسط من خلال توقعات نمو مجموعة من المؤشرات الاقتصادية. حيث توقّع التقرير أن ينمو إنتاج المملكة من النفط إلى 10.5 برميل يومياً وأن يصل معدل سعر البرميل الواحد قرابة 94.4 دولار بحلول 2016. توقّع التقرير كذلك أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي ونصيب الفرد منه إلى قرابة 2.811 مليار ريال و90 ألف ريال، على التوالي، بحلول 2016. يقابل هذا النمو انخفاض في مؤشر السلع الاستهلاكية إلى أربع نقاط في 2016 بعد أن سجّل 5.4 نقطة في 2010، واستمرار أوزان العائدات غير النفطية إلى النفطية في إجمالي العائدات السنوية للاقتصاد السعودي كما هي عليه الآن.
حمل تقرير صندوق النقد الدولي عن الأداء السنوي للاقتصاد السعودي قراءة مشرقة لمستقبل الاقتصاد السعودي على المستوى القريب مع وجود مجموعة من التحديات. فوجود تحدي تراجع أسعار النفط يدعو إلى أهمية التأكيد على مساهمة الاقتصاد السعودي في تغيير سلوك المستهلك في الأسواق المستوردة للنفط السعودي بما يضمن استدامة العلاقة بين النفط السعودي والأسواق المستوردة. علاقة من الأهمية أن تحفظ التوازن بما لا يدفع المستهلك في تلك الأسواق إلى الاعتماد على بدائل وقود أخرى. وفي الوقت ذاته من الأهمية التأكيد على تطوير أدوات السياسة المالية السعودية بما يضمن لها تعاملا أكثر إيجابية مع عائدات النفط وتوظيفها لدعم سياسة الإنفاق الحكومي في خطط التنمية حتى الثلاث 2024. تعامل من الأهمية أن يكون أكثر فاعلية في معالجة تحدي التضخم الذي مازال منذ مطلع العقد الماضي يوجد على أولويات قائمة تحديات الاقتصاد السعودي. عمل دؤوب مطلوب من جميع مقومات الاقتصاد السعودي أن تؤديه وتسجّل مستويات أعلى من المتوقع في المستقبل، بعون الله تعالى وتوفيقه.