لنتخذ من جدارة الملك المؤسس أسوة حسنة لتعزيز الانتماء للوطن
في حواري مع الأقارب والأصدقاء والزملاء حول موقفهم من الاحتفال باليوم الوطني وأشكال هذا الاحتفال وانعكاساته على مستوى الانتماء الوطني تباينت الآراء ووجهات النظر؛ فالبعض يرى ضرورة الابتهاج والفرح والسرور على المستوى العام والمستوى الفردي تعبيرا عن حب الوطن وهذا يكفي، والآخر يرى ضرورة الاحتفال بهذا اليوم بكافة أشكال الاحتفال الجاد منه والمُبهَج قبل اليوم الوطني بنحو شهر من خلال المؤتمرات والندوات والمحاضرات والملتقيات التي تناقش قضايا الوطن ومشاكل المواطن وكيفية التصدي لها وحشد الجهود لمعالجتها؛ وذلك تزامنا مع العروض الترفيهية والمسرحية والاستعراضية والشعرية المبهجة، فيما يرى فريق آخر عدم أهمية هذه الاحتفالات وضرورة التوجه لمعالجة القضايا والمشاكل بشكل جاد على أرض الواقع؛ لتعزيز ولاء المواطن للوطن بدل المظاهر الاحتفالية التي لا تظهر حقيقة وواقع الانتماء والولاء للوطن؛ إذ الانتماء الحقيقي يعني أن هناك حبا وعطاءً متبادلَين بين طرفين (المواطن والوطن)، والاحتفالات لا يمكن أن تقول بذلك أو تحققه ما لم يكن ذلك واقعا ملموسا.
ومن وجهة نظري أنها كلها آراء مقبولة؛ إذ كل يقول بما يراه من الواقع الذي يعيشه، وأضيف هنا رأيا فلسفيا يقول إن الانتماء للمصلحة وهو بالعموم انتماء طبيعي ونبيل؛ إذ إن شعور الانتماء هو إحساس طبيعي ينتاب الإنسان السوي مع بيئة التي يعيش فيها، وهو إحساس يتجسد على شكل علاقة بينه وبينها وينتج منه نتائج تختلف بحسب طبيعة الإنسان، حيث يسعى الشخص لتطوير هذه البيئة وتحسينها بشكل إيجابي، والدفاع عنها إذا لزم الأمر بالطرق السلمية أو حتى غير السلمية، وتتنوع البيئات والمجتمعات المتأثرة بحس الانتماء مشكلة طيفا واسعا، يبدأ بوسائل النقل التي تتضمن أشخاصا لا يجمعهم سوى كونهم يستفيدون من خدمة نقل معينة في آن واحد، وتمتد إلى البيت والعائلة والشركة وتنتهي بالوطن والأمة والمعتقد.
ويقول هذا الرأي الفلسفي إن السبب الأول للشعور بالانتماء هو الفوائد التي يجنيها الفرد من بيئته سواء كانت مادية أو نفسية أو اجتماعية، وفي حال انتفاء هذه الفوائد يبدأ هنا صراع داخلي يشدّه إلى خارج البيئة تارة، ثم إلى داخلها طورا، وينعكس هذا على موقفه وسلوكه وتصرفاته وحديثه عن هذه البيئة، وفي أحيان كثيرة يهاجر لبيئة أخرى توفر له هذه الفوائد لينتمي لها على حساب البيئة السابقة.
وأقول لا شك أن شعور الانتماء إلى الوطن كبيئة تجمع المواطنين جميعا بتنوعاتهم كافة من أرقى مراحل الانتماء، وهو انتماء يتعزز بالعطاء المتبادل بين الوطن والمواطن، وهو أمر أدركته قيادتنا الرشيدة، حيث تعتمد الدولة سنويا الموازنات الكبرى لتنمية الإنسان فكريا وعلميا ومعرفيا ومهاريا وسلوكيا ولتوفير متطلبات العيش الكريم كافة له بالمجان أو بأسعار متناولة من خدمات صحية وإسكانية وماء وكهرباء واتصالات ومواصلات وغير ذلك بما في ذلك الفرص الوظيفية من خلال تشجيع الاستثمار بأنواعه ومستوياته كافة.
ولكن وللأسف الشديد ما زال الكثير من المواطنين لا يشعر بنتائج هذا الإنفاق الهائل على أرض الواقع؛ ما يجعل مستوى الانتماء لديه في أضعف مستوياته، والسبب معروف وهو غياب عملية الربط بين التنمية الاقتصادية والتنمية الإدارية، حيث ينظر للقطاع الحكومي كقناة لتشغيل المواطنين؛ ما أدى لتوظيف لا يأخذ بالاعتبار الطلب والحسابات الاقتصادية للجدارة والإنتاجية، بل غلب عليه الطابع الاجتماعي والريعي؛ مما أدى إلى تراجع مبدأ الحرفية في عمل البيروقراطية، ولا شك أن عدم التواصل بين التخطيط الاقتصادي والتخطيط الإداري هو الذي يقف وراء عدم تحول الإمكانيات الهائلة إلى نتائج مذهلة تفوق أو تضاهي توقعات المواطنين.
إذن ''الجدارة'' وخصوصا في الإدارات العليا هي الغائبة وهي التي جعلت المشاريع معرقلة أو منفذة بشكل دون المستويات المعيارية، كما ذكرت ذلك تقارير ديوان المتابعة رغم دعوات وتحذيرات خادم الحرمين المتكررة والتي كان آخرها في كلمته يوم الأحد الماضي في مجلس الشورى، حيث قال ''لقد اعتمدت الدولة مشاريعها الجبارة ولم تتوان في رصد المليارات لتحقيق رفاهية المواطن، والآن يحتم عليكم دوركم من المسؤولية والأمانة تجاه دينكم وإخوتكم شعب هذا الوطن الأبي أن لا يتخاذل أحدكم عن الإسراع في تحقيق ما اعتمد ، ولن نقبل إطلاقا أن يكون هناك تهاون من أحدكم بأي حال من الأحوال، ولن نقبل الأعذار مهما كانت''.
لدينا نموذج وطني يشكل أسوة حسنة لنا جميعا في مفهوم الجدارة وتطبيقاته وهو الموحد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - غفر الله له - واخترت كلمة ''أسوة'' بدل قدوة لأنها كما يقول المختصون باللغة العربية تعني الاقتداء مع التأسي؛ لأن العمل الذي يأتي بالنتائج المذهلة التي تفوق التوقعات دائما ما تعترضه مآسٍ كثيرة تستدعي الصبر والمثابر والعزيمة والاستمرارية وتحدي العوائق، وأعتقد أن أولى الناس بالتآسي بالملك الموحد هم كبار الموظفين بالأجهزة الحكومية أولا والقطاع الخاص، وخصوصا الذي تملك الحكومة نسبة كبيرة فيه ثانيا، ومؤسسات المجتمع المدني ثالثا ذلك بأن هؤلاء هم العناصر الحاسمة في تحقيق الأهداف التنموية أو إعاقة تحقيقها وتبديد الإمكانات المالية والبشرية بشكل مؤلم، وبالتالي هم الأكثر مسؤولية تجاه مستوى الولاء للانتماء والولاء الوطني وعليهم أن يتحملوا مسؤولية هذه الأمانة.
الجدارة وهي السمات والمؤهلات الشخصية والعلمية والعملية التي تمكّن الإنسان من تحقيق معدلات أداء خارقة وقياسية، تفوق المعدلات العادية صفة أصيلة بالملك الموحد مكّنته من توحيد المملكة العربية السعودية بوسائل وأدوات شحيحة في ظروف صعبة وتحديات كبيرة تغلب عليها بمعاناة كبيرة وصلت لمخاطر الهلاك كما يروي التاريخ ، وعلينا أن نتخذ منه أسوة حسنة للوصول لمستوى جدارته لننجز في ''مجال البناء'' وفاءً له ولجدارته في ''مجال التوحيد'' من أجل وطن يتبادل وأبناؤه الحب والعطاء والولاء والانتماء.