رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


قطاع الأعمال والأفراد في مواجهة

التطور الطبيعي لعلاقة الإنسان بالدولة، يتمثل بداية في كونه شخصا مستقلا بحاجاته اليومية البسيطة في ظل اقتصاد زراعي أو رعوي بالدرجة الأولى، إلى كونه مواطناً وجزءاً من دولة يدين لها بالولاء، وتفرض له بالتالي مجموعة من الحقوق، وفي الوقت نفسه ترتب عليه جملة من الالتزامات. تبدأ هذه العلاقة بالتطور تدريجياً بتوسع مطرد في الخدمات التي تقدمها الدولة، ما يجعل علاقة الإنسان تزداد اتصالاً بهذا الكيان يوماً بعد يوم. فتطور هذه العلاقة يتمثل في بدء الإنسان بالاستفادة مما تقدمه الدولة من خدمات أساسية، كالكهرباء، والماء، والتعليم، ثم الانتقال إلى شكل أكثر تطوراً من خدمات البنية الأساسية، كالطرق والجامعات والسدود، ثم إلى مرحلة أكثر تطوراً كالتي نشهدها حالياً، مثل خدمات الحكومة الإلكترونية بمختلف أشكالها.
التطور الاقتصادي الطبيعي يتضمن أن الدولة تبدأ بتقديم هذه الخدمات، لكنها أيضاً تبحث دائماً عن طريقة لتمويلها، ومن هنا تبدأ فكرة المشاركة في تقديم الخدمات العامة. يتم فرض الرسوم والضرائب لتمويل خدمات البنية التحتية، والخدمات البلدية، وخدمات التعليم، ومع ازدياد السكان، تزداد يوماً بعد يوم تكاليف هذه الخدمات على الدولة، فتعمد إلى زيادة الرسوم والضرائب، لمواجهة تكاليف زيادة الطلب على هذه الخدمات. القطاع الخاص يستفيد بشكل مباشر من ازدياد إنفاق الحكومة، وبالتالي تزداد عوائده، وفي الوقت نفسه تزداد فرص العمل بالنسبة للمواطنين. لكن يكون هناك اختلاف حول عملية توزيع عوائد الاستثمار بين عنصر رأس المال، الذي يذهب للمستثمر، وبين عنصر العمل الذي يذهب للعامل. تركز الثروة في أيدي فئة قليلة من الناس التي تستفيد من إنفاق الحكومة المتزايد على الخدمات العامة يزيد من أصوات المطالبة بإعادة التوزيع العادل لتكلفة تمويل هذا الإنفاق، بين أصحاب الدخول المنخفضة والمتوسطة من جهة، وأصحاب الدخول المرتفعة من قطاع الأعمال من جهة أخرى. ويبقى السؤال الذي يبحث دائماً عن إجابة: من عليه أن يتحمل الجزء الأكبر من تكلفة الإنفاق الحكومي؟
هنا يحدث الانقسام في الفكر الاقتصادي حول دور الدولة في النشاط الاقتصادي، فئة ترى أن الدولة يجب أن ترعى الكثير من الأنشطة الاقتصادية، ومن ضمنها توفير الخدمات التعليمية والصحية ورعاية العاطلين وإنشاء البنى التحتية وغيرها. وبالطبع هذا سيتطلب الكثير من الإنفاق، ما سيدعو الحكومة إلى فرض المزيد من الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة وقطاع الأعمال. والفئة الثانية ترى أن الدولة يجب أن تقصر نشاطها على الخدمات الرئيسة التي لا يمكن أن يقوم بها القطاع الخاص، وذلك لتجنب فرض ضرائب على قطاع الأعمال، ما يحد من قدرة هذا القطاع على التوسع في أنشطته واستثماراته. من هذا المنطلق، يتوسع الجدل حول الحجم الأمثل للحكومة، الذي يقدر بنسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي. كما يثور جدل آخر حول من الأكفأ في تقديم الخدمات، كخدمات الصحة والتعليم، هل هي الحكومة أم قطاع الأعمال. يبرز كذلك جدل حول ما المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الحكومة في تنظيم النشاط الاقتصادي من خلال التشريعات. ففي حين يرى الكثيرون أنه من الضروري أن تعمل الحكومة على سن التشريعات اللازمة لحفظ الحقوق العامة وحقوق الأفراد. يرى قطاع الأعمال أن التوسع في هذه التشريعات يحد من قدرتهم على التحرك والتوسع في أنشطتهم الاقتصادية، وبالتالي تحد من إمكانات النمو للاقتصاد.
في المملكة الوضع يختلف نوعاً ما، لانتقالنا من المرحلة الأولى المتمثلة في الاقتصاد الزراعي والرعوي الذي يعتمد فيه المواطن على نفسه وعلى بيئته المحيطة في توفير الخدمات الأساسية، إلى مرحلة الثورة النفطية التي يسرت لنا فرصة التمتع بالكثير من الخدمات الحكومية دون الحاجة إلى المشاركة في التمويل من خلال النظام الضريبي. بل إن الدولة ساهمت في تشجيع النشاط الاقتصادي سواءً للأفراد أو لقطاع الأعمال من خلال توفير التمويل اللازم مثلاً للتوسع في المساكن، أو للتوسع في الصناعة أو الزراعة. الطلب المتزايد على هذه الخدمات فرض على الدولة زيادة إنفاقها، وبالتالي استفادة القطاع الخاص من هذا الإنفاق، وازدياد تركز الثروات في يد قطاع الأعمال .. لماذا؟ لأن قطاع الأعمال استفاد من عنصرين أساسيين، هما ارتفاع عوائد استثماراته، خصوصاً تلك المرتبطة بأنشطة الحكومة، وبسبب حيازته النسبة الكبرى من هذه العوائد، بالنظر إلى أنه لم يواجه بمشكلة توزيع هذه العوائد بين رأس المال، الذي يمتلكه، أو قطاع العمل، الذي يتشكل أغلبيته من العمالة الأجنبية.
تركز الثروة في يد قطاع الأعمال وقدرته على التأثير في القرار الاقتصادي، من خلال التنظيم الجيد، خصوصاً في ملف السعودة، بدأ يشكل نواة لصراع فكري اقتصادي في المملكة. الأفراد يتساءلون عن دور قطاع الأعمال في الاقتصاد، من خلال توفير فرص العمل للمواطنين، وتحقيق القيمة المضافة التي تسهم في زيادة النمو الاقتصادي. يتساءل الأفراد بشكل واضح عن أهمية أن تكون هناك سياسات واضحة لإعادة التوزيع، ولكبح جماح الجشع الذي يطغى على قطاع الأعمال، وفي جميع المجالات بلا استثناء. هناك تساؤلات كثيرة تدور حول جدوى تقديم الدعم لقطاع الأعمال، من خلال القروض الميسرة والتسهيلات، في ظل عدم قدرته على استيعاب المواطن، أو حتى تنفيذ وإدارة أنشطته بشكل كفء يعود عليه وعلى المواطن بالنفع. هذه التساؤلات ستتعاظم يوماً بعد يوم، وستشكل مجالا خصبا للبحث والنقاش والجدل في المستقبل، ويبقى السؤال الذي يبحث عن إجابة، هو: كيف ستتشكل السياسة الاقتصادية للحكومة في ضوء هذا الصراع الفكري؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي