رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


لو كان العمل رجلا لقتلته

لو كان الفقر رجلاً لقتلته عبارة يروى أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قالها تعبيراً عن عدم رضاه عن الفقر وكرهه له، وذلك إدراكاً منه، وهو الحاكم والخليفة، وطأة الفقر وشدته على النفس، وما يترتب عليه من أذى لصاحبه وأهله، أذى نفسي وجسمي، وربما ترتبت عليه أمراض نتيجة سوء التغذية التي قد يتعرض لها الفقير لعدم قدرته على الوفاء بمتطلبات الغذاء السليم الذي يقي صاحبه من المرض. الفقر لو كان رجلاً ووقف أمام عمر العادل لقتله ليتخلص من أذاه وليريح الناس من شره. وموقف عمر من الفقر يفسر لنا حرصه على تفقد أحوال رعيته وقيامه بجولات ليلية لمعرفة واقع الناس والعمل على علاج مشكلاتهم وحلها.
تأملت في هذه العبارة التي شخص بها عمر شدة الفقر وأثره، وحاولت أن أعدل فيها وأضع على وزنها عبارة أخرى تحكي واقعاً يعيشه بعض الناس، وتشخص واقعهم وعلاقاتهم مع العمل. من ملاحظات متكررة، ومستمرة لفترة طويلة تقاس بالسنوات، وليس بالأشهر والأيام، ولأفراد يعملون في مستويات متعددة منهم الأستاذ الجامعي ومنهم السكرتير ومنهم الفني ومنهم الإخصائي، لمست أن بعضا من هؤلاء يتصرف في بيئة العمل كما لو أن بينه وبين العمل عداوة تفوق عداوة داحس والغبراء التي أحدثت حرباً استمرت سنين، وأهلكت الحرث والنسل. هؤلاء يأتون إلى العمل مكرهين، ولا يربطهم به إلا مسمى الوظيفة فقط، حيث يعرف الواحد منهم نفسه بأنه أستاذ في الجامعة الفلانية، أو سكرتير في القسم الفلاني وهكذا، لكن ماذا يقدم هذا الفرد لعمله، وما البصمات التي تركها أو قد يتركها مستقبلاً، لا شيء على الإطلاق.
علاقة هؤلاء بعملهم علاقة حضور لسويعات أو أقل من ذلك، تجدهم يتهربون من اللجان ويلقون بها على الزملاء الآخرين، كما أنهم يتفننون في البحث عن الأعذار التي تخلصهم من أي مسؤولية أو عمل حتى إن كان في مجال اختصاصهم ومن ضمن المسؤوليات المنوطة بهم حسب النظام.
سلوكهم اليومي يظهر عليه الاحتراف في اختلاق الحيل حيث يحضر أحدهم إلى العمل، لكن فجأة وفي أسرع من البرق تبحث عنه فلا تجده، تسأل عنه ولا أحد يخبرك أين هو، كما أنك لا تعرف متى يأتي ومتى يخرج، لديهم قدرة وبراعة في التمثيل المحترف على الذين لا يعرفونهم على حقيقتهم. يأتي الواحد منهم مستعرضاً نفسه، يمر على بعض الزملاء ويتحدث بصوت مرتفع وكأنه يبحث عمن يشهد أنه رآه أو سمع صوته في ذلك اليوم وتلك الساعة المحددة، يختار أماكن رئيسة يمر من عندها كمدير الإدارة أو بالقرب من رئيس القسم، ولو حسبت الوقت الذي استغرقه مثل هذا الاستعراض لوجدته يحسب بعشرات الدقائق فقط إن لم يكن أقل.
عند الحديث معهم تجدهم الأكثر حرصاً على العمل والأكثر غيرة على المصلحة العامة، ولا يترددون في النقد، بل في إظهار عيوب الآخرين ونواقصهم، وكأنهم بمثل هذا الصنيع يرون القذى في عيون الآخرين، لكنهم ومن المؤكد لا يرون القذى الذي يملأ عيونهم.
التفنن في إضاعة الوقت سمة بارزة لهؤلاء حيث يمضون الوقت إن جلسوا في مكان العمل في الحديث مع هذا وذاك، والانتقال من هذا المكان إلى ذلك المكان، وقراءة الجرائد أو المكالمات الهاتفية الطويلة التي ليس لها علاقة بمجال العمل.
نصيب العمل من هؤلاء هو الانتساب فقط والكلام والتنظير، لكن لو قدر لأحد أن يحسب نسبة إسهام هؤلاء في الإنجاز اليومي أو الأسبوعي أو السنوي لوجد أن النسبة قريبة من الصفر. ترى لو رأى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هؤلاء والأدوار التي يقومون بها في مجالات العمل التي ينتسبون إليها ماذا سيفعل بهم انتصاراً للعمل العام الذي لا بد من الإخلاص في إنجازه ليرتقي المجتمع ويكون في مصاف المجتمعات الرائدة؟ في ظني أن أقل ما سيفعله في هؤلاء فصلهم وإبعادهم عن بيئة العمل والتخلص من العبء الذي يمثلونه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي