هل غادر العرب جاهليتهم؟
سأترك شؤون السويد هذا الأسبوع وأركز في جمعتنا المباركة هذه على الوضع العربي كما أراه من موقعي كباحث وأستاذ جامعي يقطن في أقصى شمال الكرة الأرضية. وأنا أراقب الوضع في الأوطان العربية ينتابني قلق شديد وخوف وخشية على ما ستؤول إليه الأمور.
خشيتي نابعة من يقين توصلت إليه وأنا أتابع الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية حتى الدينية في هذه المنطقة الحساسة والاستراتيجية من العالم. وهذا اليقين لا علاقة له بمراكز الأبحاث الغربية وما تجتره من دراسات. ما سأكتبه اليوم مبني على قراءتي للتاريخ العربي بشقيه ما قبل الإسلام وبعده.
انبثقت الرسالة في الجزيرة العربية قبل 1400 سنة. هذه الرسالة غيرت وجه الدنيا ونقلت العرب من حال سيئ إلى حال أفضل وجعلت منهم في غضون عقدين من الزمان سادة الدنيا.
نعم إنها رسالة سماوية ألقيت على مسامع نبي أمي ــــ وهذه معجزة أخرى بذاتها. المصطفى لم يردد ما كان يتلقاه على مسامع العرب فقط، بل كان أكثر الناس طاعة وتنفيذا للمبادئ السامية التي احتوتها الرسالة. كان الرسول يطبق ما تطلب منه الرسالة وما يحث الناس عليه ولم ينه عن خلق ويأتي بمثله.
حارب الإسلام ورسوله كل العادات السيئة لدى العرب في الجاهلية والقرآن يندد ببعضها بآيات بينات. وحفظ للعرب الكثير من عاداتهم الحسنة والقرآن يذكرها بآيات بينات والرسول يدعمها ويحث العرب على التشبث بها في أحاديث كثيرة.
وكان الرسول يدرك أن الهدم سهل المنال إلا أن إقامة العدل عملية صعبة وشاقة تحتاج إلى صبر وحكمة وحنكة رغم أنه كان المصطفى بين الناس لتلقي الرسالة. إقامة العدل معناها إرساء نظام يقنع الناس (المجتمع) بإحكام العقل وصوت التعقل رغم بحر الفوضى وأمواج الاضطراب.
والعصبية القبلية وعمليات الثأر والانتقام وما يرافقها من ظلم وقهر واستبداد كانت من الخصال الجاهلية التي حاربها الإسلام ورسوله بلا هوادة. حاربها أولا بلسانه ومن ثم بما قام به من أعمال وما خطه من سياسات عند التعامل مع بني قومه من العرب، لا سيما الذين حاربوه واضطهدوه وهجّروه.
خصوم الرسول كان همهم الثأر والانتقام انطلاقا من عصبيتهم القبلية. الرسول كان همه إحقاق العدل ونشر رسالته السمحة، ليس فقط من خلال الكلمة (الخطاب)، بل من خلال الفعل الإنساني.
لنفترض جدلا أن خصوم الرسول تمكنوا من اقتحام المدينة وفتحها. لو حدث ذلك لوقعت مجزرة رهيبة ولأوقع الخصوم سيوفهم ورماحهم في الناس فتكا ولأهلكوهم جميعا غير مكترثين بالعمر والجنس.
ولكن عندما مكن الله الرسول من فتح مكة، العقر الذي قاومه ورسالته، تصور الخصوم، منطلقين من عصبيتهم، أن السيوف ستنهال على رقابهم. وكم كانوا مخطئين. حكموا على النبي ورسالته من منظار عقلهم الذي تحكمه العصبية القبلية ولم يدر في خلدهم أنهم أمام قائد يحكم العقل والمنطق في التعامل حتى مع أعدائه اللدودين.
كان همُّ الرسول نشر رسالة العدل والمحبة والتسامح وليس الانتقام والتشفي وسب وشتم كل من كان جزءا من النظام الذي قاومه واضطهده لا بل أراد قتله وتصفيته.
وهكذا أطلق مقولته الشهيرة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". لم يحاكم أحدا ولم يسن قانونا للاجتثاث لأنه كان يدرك أن رسالته وسياسته ومنهجه تكتمل بالتسامح والغفران والمحبة وليس بالتشفي والإقصاء والاجتثاث.
طبق الرسول سياسة التسامح والمصارحة في ثورة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. مكة وأهلها كانوا أصحاب التجارة والمال ويملكون إمكانات هائلة وظّفها بعقله الجبار من أجل إعلاء شأن رسالته.
نعم، إن اتباع الغفران عن الماضي والتسامح والمصارحة سياسة صعبة ومرّة إلا أن مردودها وفير ولا بد منها إن أرادت أي ثورة التوجه صوب المستقبل وبناء الأوطان وتحقيق حلم الإنسان في خلق مجتمع خال من الاستبداد والقهر والظلم.
ثورة الإسلام التي قادها الرسول لم تكن تنجح بالتشفي والبغضاء والاجتثاث والانتقام والعصبية. غفر الرسول لأهل مكة وكل من كانت له صلة بنظامها وقادتها. بهذا حقق سابقة نادرة في زمانه. الفاتحون كانوا يقهرون ويضطهدون وينتقمون لأنه لم تكن لهم رسالة ولم يكونوا أصحاب ثورة حقيقية.
أما الرسول فهو صاحب رسالة وثورة اجتماعية وسياسية واقتصادية. كان هدفه إرساء قواعد كي يتبعها المسلمون في ثوراتهم على الظلم والاستبداد.
الثوار يجهضون أنفسهم وثورتهم إن اعتقدوا أنهم فاتحون على طريقة أهل مكة قبل فتحهم. ثوار همهم الانتقام والاجتثاث والثأر من خصوم الأمس، لم يغادروا جاهليتهم وإن كانوا مسلمين. انظر ماذا حدث في العراق. أتى أناس أطلقوا على أنفسهم مسمى ثوار ومحررين، ولكن الجاهلية والعصبية كانت ديدنهم وديدن الغزاة الذين أتوا بهم فبدلا من المسامحة اتخذوا الاجتثاث والإقصاء والانتقام هدفا. وحدث في العراق ما حدث. واليوم أخشى على الثورات العربية من سياسة العصبية القبلية وعقليتها الثأرية والانتقامية وما يرافقها من ترويع وخوف وإرهاب لكل من كانت له علاقة بالنظم السابقة.
هناك جراح كثيرة وهناك ألم وظلم وهذه صفة كل النظم الاستبدادية. الثورة يجب أن تجلب الطمأنينة ويجب أن ترتفع عن كل مساوئ النظم السابقة.
بالأحرى على أي ثورة أن تكون جزءا، ولو صغيرا، من الثورة المحمدية، حيث إنها تسامت على الجراح والكراهية والحقد والبغضاء. على أي ثورة أن تصبح نبراسا كي يتشجع الآخرون على الاقتداء بها. واليوم لا يقول أي عاقل إن ما حدث في العراق كان ثورة بالمفهوم الذي تحدثنا عنه. إنه كارثة بكل المقاييس.
كتبت هذا كي يصبح الربيع العربي ربيعا حقيقيا.
وإلى اللقاء..