صور مضيئة وأخرى ... ؟!
صور جميلة مشرقة يزهو المرء ويفتخر وهو يراها تتكرر في أكثر من موقع، وتتأكد ملاحظتها خلال شهر رمضان المبارك؛ شباب يتبارون ويتنافسون في الحرم المكي الشريف لخدمة الصائمين، ويفعلون هذا الأمر وهم ممنونون، وفرحون، بل يقومون به بأنفس راضية، تلاحظ عليهم وأنت تشاهدهم علامات الفرح والسرور. قبيل أذان العصر من كل يوم يسارعون إلى حجز مكان السفرة في أي موقع من المواقع داخل الحرم الشريف، وكذلك خارجه، وبعد صلاة العصر يحضرون التمر والقهوة، ثم يقومون بوضعها في صحون صغيرة تناسب الصائم، وبعد اكتمال هذه المهمة يقومون بترتيب السفر ووضع التمر عليها، كما يقومون بتوزيع التمر على المارة، وقبيل أذان المغرب يعدون ماء زمزم في أكواب ويوزعونها على السفر، وعلى الصائمين، إنها صور مشرقة جميلة تكشف عن المعدن الأصلي لأبناء الوطن، والأمة، وهم يقومون بهذه الممارسات الرائعة، وبطواعية، وبوحي من شعورهم الأخوي والإنساني نحو الآخرين، حتى إن كانوا لا يعرفونهم، وربما لم يقابلوهم، ولن يقابلوهم مستقبلاً. صورة من صور التعاون على الخير، والبر بين أبناء الأمة، صورة تلاحم يصعب على الكلمات أن تعبر عن المشاعر التي يكنها المشاهد لهؤلاء الأفراد الذين ألزموا أنفسهم ولم يلزمهم أحد لخدمة الصائمين والمعتمرين.
بعد الإفطار بدقائق يقوم هؤلاء الأفراد بتنظيف المكان، ووضع البقايا من صحون وأكواب في أكياس، وبسرعة البرق التي تتناسب مع الظرف الزماني حيث إقامة الصلاة، ومع ظرف المكان، وكثرة الناس، والزحام. لقد أسرتني هذه الصور وأنا أتباعها لحظة بلحظة، وحركة بحركة، وكم دعيت لهم بالتوفيق والسداد، لأن هذا أقل ما يمكن أن يقدم لهؤلاء العاملين في هذا الموقف مع حرارة الجو، وطول النهار، حيث إنهم صيام كغيرهم، ومع ذلك يؤثرون في أنفسهم كل شيء من ماء، وتمر، وقهوة.
هذه الصورة يقابلها صورة بل صور أخرى في الحرم المكي الشريف، إنها صورة مفترشي أرض الحرم وممراته الذين يعيقون الحركة، فلا المعتمر يأخذ راحته، ويؤدي النسك، ولا من يقومون بالخدمة من نظافة أو ترتيب يؤدون دورهم بالسهولة المرجوة. ويضاف لهذه الصورة السيئة صورة أخرى ليست أقل سوءا، ألا وهي عدم العناية بالنظافة من قبل مرتادي الحرم، حيث البعض يترك بقايا الأكل والشرب وأدواتهما من صحون وأكواب في مكانه، ولا يكلف نفسه لوضعها في أماكنها المحددة، ويشعر المرء وهو يشاهد هذه الصور بالتقزز ويتساءل ويحق له أن يتساءل: ما الذي يجعل هؤلاء الذين قطعوا المسافات الطويلة شوقاً للصلاة في الحرم المكي الشريف وأداء العمرة يتصرفون هذه التصرفات، هل عدم وعي بقدسية المكان؟ كلا، لا أعتقد أن مسلماً في أي مكان على وجه البسيطة يجهل هذا الأمر. إذاً ما هو السبب؟ هل لا مبالاة وعدم اهتمام؟ وفي مثل هذه الحالة أعتقد أن من يتصرف بذلك يخدش عمرته، وصلاته، كما أنه يرسم صورة غير حسنة عن نفسه في المقام الأول، وعن المسلمين في المقام الثاني، إذ إن هذا السلوك، وفي هذا المكان، يفترض ألا يقع من المسلم الذي يحسن أن يكون نموذجاً للآخرين في النظافة، والترتيب، والنظام.
كيف نزيل هذه الصورة السيئة ونتخلص منها، ليس في هذا المكان وهذا الموسم فحسب، بل في كل الظروف والأحوال؟ بين السلوك الخاطئ والسلوك الصحيح فعل بسيط أشبه ما يكون بالشعرة من حيث التحكم بالذات على فعل الحسن، أو الاستهانة بالأمر، والإقدام على السلوك غير الحسن، خاصة في موضوع النظافة، ما الذي يمنع البعض من أن يأخذوا بقايا الطعام والصحون والأكواب ويضعونها في أماكنها الصحيحة، في حين آخرين يفعلون ذلك برضا وبإرادتهم؟ في ظني أن شعور المرء وإحساسه الذي يجعله يشعر بالرضا والسرور إن فعل الشيء السليم، والشعور بتأنيب الضمير إن فعل خلاف ذلك؛ هو مفتاح السلوك سواء كان مقبولاً أم غير مقبول. المعلومة قد تكون موجودة لدى الكثيرين لكن القدرة على ترجمة هذه العلومة إلى سلوك، وفعل على أرض الواقع هو ما نحتاج إليه، ولذا فإن تثقيف المعتمرين ومرتادي الحرم يشكل حاجة ماسة، التثقيف بمفهومه الشامل الذي لا يقتصر على المعلومات، بل امتداده إلى الشعور والإحساس بقيمة وأهمية السلوك الحسن، وكذلك فداحة وخطأ السلوك السيئ.
المملكة لا يمكنها أن تقوم بهذا الدور لكل شعوب العالم الإسلامي، مع اختلاف لغاتهم، وأجناسهم، وثقافاتهم، ولذا فإن الأوطان الأصلية للزوار والمعتمرين يقع عليها واجب توعية وتثقيف زوارها ومعتمريها حتى يرسم المسلمون صورة مشرقة في أقدس مكان على وجه الأرض، وقد فعلت بعض الدول مثل ماليزيا برامج توعية لحجاجها ومعتمريها، فهل تقوم الدول الأخرى بواجباتها؟! إنني في هذا المقام أقدم دعوة لسفارات كافة الدول التي يفد منها المعتمرون، والحجاج، والزوار، إلى السعي مع حكوماتهم لوضع البرامج التوعوية والتثقيفية التي تسهم في توجيه سلوك الجميع بما يحفظ للمكان نظافته، وبما يتناسب مع قدسيته.