قراءة تأمينية في ثقافة التخريب لدى الشعوب

لعلكم أصبتم مثلي بالدهشة مما يجري من أعمال شغب عارمة في بريطانيا تمثلت بتدمير الممتلكات العامة والخاصة وتكسير وإشعال الحرائق ونهب للمحال، على الرغم من أن القانون البريطاني معروف بصرامته ضد هذه الأعمال، فهو قد يصل في تصنيفها على أنها من قبيل الجرائم البيئية والموجهة ضد المجتمع.
والحقيقة أن ثقافة التخريب أو ما يُعرف اصطلاحاً في الغرب بـ vandalism هي من أخطر السلوكيات التي تجد جذورها في الحضارة الغربية، فهذا السلوك العدواني يعود في أصله إلى الحضارة الرومانية، فالجرمانيون يرون أن التخريب والتدمير هو الأسلوب الأمثل للتعبير عن القوة في مواجهة الأعداء، فالقوة لديهم هي عبارة عن دمار لا يرحم وإفساد لكل ما هو جميل وتخريب كل ما يرى الطرف الآخر أو الخصم أنه مصدر إنجاز أو فخر له.
ومصطلح vandalism أطلقه أحد الأساقفة الفرنسيين ويدعى هنري جريجوار لوصف الدمار الذي طال الأعمال الفنية بعد الثورة الفرنسية، وانتشر هذا المصطلح عبر أوروبا فأصبح يطلق على كل أعمال التخريب التي تطول الممتلكات العامة والخاصة. وشمل هذا المصطلح كل أعمال التخريب الغوغائية والتي عادة ما تصاحبها احتفالات وحشية للتنكيل بالخصوم وغير الخصوم، ولعل أكثرها وحشية وشهرة الاحتفال الذي صاحب تفكيك النصب الفرنسي Vendôme، باعتباره رمزاً لإمبراطورية نابليون الثالث الاستبدادية.
وقد كانت هناك محاولات أثناء انعقاد ''المؤتمر الدولي لتوحيد للقانون الجنائي'' في مدريد عام 1933، لوضع تصنيف قانوني لجريمتين جديدتين من الجرائم الدولية، وهما جريمة إبادة المجموعات العرقية أو الدينية أو الاجتماعية، وجريمة التخريب، المتمثلة في تدمير الأعمال الثقافية والفنية لهذه المجموعات. إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل.
وعلى العموم فأعمال التخريب تتخذ أشكالاً عدة، ولعل أشدها التدمير المتعمد للممتلكات العامة والخاصة، وذلك عندما ترتكب على نطاق واسع كتعبير عن الكراهية أو التخويف، وأقلّها أعمال التخريب المتمثلة في الكتابة على المباني العامة.
وبمقارنة بسيطة بما يحدث في بريطانيا وما يحصل في عالمنا العربي، فإن الأحداث السياسية التي شهدتها بعض الدول العربية مثل مصر وتونس واليمن وسورية، لم يكن فيها لثقافة التخريب أو التدمير أي دور يُذكر، فالتعبير عن موقف سياسي معين عن طريق التدمير والتكسير والحرق لم يكن قط من سمات المواطن العربي، ولكن مع ذلك يلاحظ أن أعمال التخريب في وطننا العربي التي تطول الممتلكات العامة بالذات، يكون منشؤها ضعف الوعي وعدم المبالاة في المحافظة على الملكية العامة والدفاع عنها في مواجهة من يقوم بالتخريب من الأفراد.
واللافت للنظر أن الاستثناءات الواردة في وثيقة التأمين والمتعلقة بأعمال الشغب (وهي التي تقوم شركات التأمين لدينا باستبعاد الخسائر المترتبة عليها وعدم التعويض عنها) يُلاحظ فيها أنها تعكس بشكل كبير الحساسية المفرطة من شركات التأمين تجاه هذا النوع من المخاطر. فشركات التأمين تجتهد في استبعادها ولا تكتفي بذلك، بل تقوم بشكل مبالغ فيه بتفصيل وبيان هذه الأعمال التخريبية وتعدادها، ويكفي أن يقرأ أي واحد منا البنود الخاصة باستبعاد الأعمال التخريبية من نطاق التغطية التأمينية والتي تسميها شركات التأمين عادة بأعمال الشغب، ليلحظ دون عناء مدى دقة شركات التأمين في وصف هذه الظاهرة واهتمامها بها. وهذا نابع من وجهة نظري من أن شركات التأمين الغربية تدرك عمق وحجم هذه الظاهرة وتجذرها في الموروث التاريخي والثقافي الغربي، وهي تعمم هذا المنظور على كافة شعوب الكرة الأرضية ولو علمت أن هناك كائنات فضائية أخرى لعممتها عليها كذلك، وقد تسللت هذه المصطلحات والأوصاف التأمينية إلى وثائق التأمين المحلية لدينا من شركات إعادة التأمين العالمية، بينما نحن والحمد لله مسالمون لا نحرق نحلاً ولا نقطع شجرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي