انحراف الفتاوى عن الضوابط الشرعية يتطلب تدخل العلماء لتصحيح ما يجري

انحراف الفتاوى عن الضوابط الشرعية يتطلب تدخل العلماء لتصحيح ما يجري

أكد الدكتور محمد السحيباني أستاذ كرسي سابك لدراسات الأسواق المالية الإسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامي أن وجود المؤسسات الداعمة للمصرفية الإسلامية دليل واضح على التعاون بين أرباب الصناعة، وأن الفجوة بينها قد تكون في التنسيق بين هذه الجهات بحيث تتناغم جهودها وتتكامل، وقال إن واقع المؤسسات المالية الإسلامية يفتقر إلى وجود المحفزات الذاتية للقيام بوظيفة البحث وتطوير منتجات مالية جديدة، مؤكدا أن مؤسسات البحث والتطوير التي تعمل خارج صناعة المصرفية الإسلامية لديها قدرة أفضل على التفكير الاستراتيجي بعيد المدى من العاملين في الصناعة بشكل مستمر، حيث يعتمد العمل على الحلول قصيرة الأجل.
وحول جهات تصنيف وتقييم المؤسسات المالية الإسلامية أكد السحيباني أن هذه الجهات يجب أن تعتمد نموذجا يختلف عن التصنيف السائد ليشمل التقويم بناء على حسن إدارة الأموال والقدرة على استثمارها بأمانة وكفاءة عالية، وقال إننا في حاجة في الحالات التي تنحرف فيها الفتاوى أو التطبيقات عن الضوابط الشرعية إلى تدخل العلماء الذين لهم وزنهم والمجامع الفقهية لإعلان الخلل والدعوة إلى تصحيح الوضع، كما أشار إلى الجهود الكبيرة لاستصدار معايير للمؤسسات المالية الإسلامية، وأوضح أن الالتزام بهذه المعايير يعتمد على مدى حرص كل بلد على أن يكون بيئة جاذبة للمالية الإسلامية. فإلى تفاصيل الحوار:

استكمال هياكل صناعة المالية الإسلامية، كيف ومتى سيكون؟ ولماذا لا نجد تعاونا جديا بين أرباب الصناعة للتقدم للأمام في هذا المجال؟
هناك جهود كبيرة أثمرت عن تأسيس مجموعة من المؤسسات الداعمة لصناعة المالية الإسلامية، منها ما يمثل أرباب الصناعة مثل هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية، والمجلس العام للبنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، والسوق المالية الإسلامية الدولية، ومركز إدارة السيولة المالية والوكالة الإسلامية الدولية للتصنيف (وتقع جميع هذه المؤسسات في البحرين)، ومنها ما يمثل الجهات الإشرافية مثل البنك الإسلامي للتنمية في جدة والمؤسسات التابعة له، ومجلس الخدمات المالية الإسلامية في ماليزيا، إضافة إلى البرامج الأكاديمية والتدريبية ومراكز البحوث وكراسي البحث المتخصصة في الجامعات وخارجها.
ووجود هذه المؤسسات دليل واضح على التعاون بين أرباب الصناعة، وقد تكون الفجوة في التنسيق بين هذه الجهات بحيث تتناغم جهودها وتتكامل. ونأمل أن تسهم الهيئة الإسلامية العالمية للاقتصاد والتمويل بدور في هذا المجال.

هناك وفرة في الأبحاث واشتقاق المنتجات، لكنها تعاني قلة التطبيق، وإبقاء الصناعة في دائرة أسلمة ما هو تقليدي.. ما السبب وراء ذلك؟
على الرغم من أهمية تطوير وابتكار منتجات مالية جديدة للمصارف وغيرها من المؤسسات المالية، إلا أنها تفتقر في الواقع إلى الحوافز الذاتية للقيام بوظيفة البحث والتطوير؛ بسبب صعوبة حماية حقوق ملكية المبتكرات المالية، وارتفاع مخاطرها وتكلفة تطبيقها سواء تعلقت بالتكاليف القانونية أو المحاسبية أو التقنية، ما يدفع المؤسسات المالية للخيار الأسهل وهو تحوير المنتجات التقليدية السائدة والمتوافقة مع طبيعة أعمالها السابقة.
ويؤكد هذا دور المؤسسات البحثية الداعمة للصناعة، بصفتها جهات مستقلة وغير ربحية، وبالتالي في وضع أفضل لتقديم خدمات عامة تعود بالنفع على صناعة المالية الإسلامية والمجتمع بشكل عام. وسيعتمد نجاح المؤسسات البحثية بلا شك على تعاون الممارسين في الصناعة، وتحديداً مدى استعداد البنوك وبقية المؤسسات المالية لتحمل مخاطرة تطبيق بعض المنتجات الجديدة.
هناك حلقة مفقودة بين مؤسسات البحث المتخصصة في الاقتصادي الإسلامي وفقه المعاملات وبين تطبيقاتها على أرض الواقع في المؤسسات المالية والمصرفية، وهناك بطء شديد يعكس أحيانا حالة من الضعف بهذه الصناعة .. كيف يمكن تجاوز ذلك؟
السبب - في نظري - أن من هو خارج الصناعة لديه قدرة أفضل على التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، الذي يركز على الحلول المثلى. وعلى النقيض من ذلك، يواجه العاملون في الصناعة مشكلات مستمرة تتعلق بالتشغيل وإدارة العمل الحاضر، ما يضطرهم إلى التركيز على الحلول قصيرة الأجل. ويمكن تجاوز ذلك بالتواصل المباشر بين المتخصصين والباحثين والممارسين في الصناعة للتعرف على مجالات البحث ذات الأولوية في مجال تطوير وابتكار المنتجات وآلية تطبيقها، حيث ستكون الأبحاث في هذه الحالة ذات علاقة أكبر بالواقع، ما يشجع الصناعة على تبني الحلول التي تطرحها.

قوة صناعة المصرفية الإسلامية يعكسها وجود هيئات فنية متخصصة ومستقلة معتمدة وتمتلك صفة الإلزامية، لماذا ما زالت هذه الهيئات بمعايير غير ملزمة لهذه المؤسسات؟ كيف ستعبر هذه المؤسسات عن هيكل عام محدد وواضح المعالم؟
بذلت جهود كبيرة لاستصدار معايير للمؤسسات المالية الإسلامية، ويعتمد الإلزام بها كما هي أو بعد تنقيحها على مدى حرص كل بلد على أن يكون بيئة جاذبة للمالية الإسلامية. ونلاحظ أن الدول التي تسعى إلى التميز في مجال المالية الإسلامية على المستوى العالمي، تبادر قبل غيرها لتحويل هذه المعايير إلى متطلبات إلزامية من خلال سن الأنظمة واللوائح المناسبة.

أين هي جهات التصنيف الإسلامية التي تستطيع أن تضع معايير تقييم واضحة للمؤسسات المالية الإسلامية وللقائمين عليها من هيئات شرعية وإدارات تنفيذية ووضع تصنيفات لهم؟
كما ذكرت من بين الجهات الداعمة لصناعة المالية الإسلامية الوكالة الإسلامية الدولية للتصنيف في البحرين، وهي لا تزال في بداياتها، ومن المهم التأكيد على أن التصنيف يجب أن يعتمد نموذجا مختلفا عن التصنيف السائد الذي يقوم على مدى الجدارة الائتمانية والقدرة على سداد الديون ليشمل التقويم بناء على حسن إدارة الأموال والقدرة على استثمارها بأمانة وكفاءة عاليتين.

ظاهرة التبضُّع في الفتاوى والبحث عن المتساهل والمترخص، وهذا الأمر جاء محصلة للعرض والطلب، فخرجت بعض الشخصيات من الدائرة وأصبحت الهيئات غير مستقلة في قرارها .. كيف يمكن تجاوز ذلك؟
أدى تطور صناعة التمويل الإسلامي في العقود الثلاثة الماضية إلى تزايد حاجة البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية إلى استصدار اجتهادات فقهية وتطوير منتجات مالية جديدة. ويلاحظ المتابع أن فتاوى هيئات الرقابة الشرعية في مجال التمويل الإسلامي تأثرت كثيراً بالضغوط الكبيرة من المؤسسات المالية الساعية لتطوير منتجات مالية منافسة لنظيرتها التقليدية، تفي بالحد الأدنى من المتطلبات الشرعية، ما أسهم في تطوير منتجات مرجوحة شرعاً واقتصاداً. وقد تسبب ذلك في تراجع الثقة بمنتجات المصرفية الإسلامية؛ حيث أصبحت تمثل في نظر الكثيرين مجرد تغييرات شكلية، تتجه أكثر للتوافق مع الصيرفة التقليدية وليس الشريعة الإسلامية.
والمشكلة ليست تعدد فتاوى هيئات الرقابة الشرعية واختلافها، وليس هناك مبرر للقلق من وجود قضايا غير محسومة لا تزال محل نظر أمام المختصين والمهتمين بالمصرفية الإسلامية؛ فستظل هناك دائماً قضايا متفق عليها في المصرفية الإسلامية، وأخرى محل خلاف وتحتاج إلى حسم، وهذا أمر طبيعي، وعندما تفقد المصرفية الإسلامية هذه الحركية، فقد يكون ذلك علامة سلبية على ركودها وعدم قدرتها على الاستجابة للتطور في النشاطات الاقتصادية والحاجات المتجددة للأفراد والمؤسسات.
ونحن في حاجة في الواقع في الحالات التي تنحرف فيها الفتاوى أو التطبيقات عن الضوابط الشرعية إلى تدخل العلماء الذين لهم وزنهم والمجامع الفقهية لإعلان الخلل والدعوة إلى تصحيح الوضع؛ وهو ما يحصل - بحمد الله، ويجب ألا يخيفنا تشويه السمعة كما تضخمه وسائل الإعلام، لأن المهم في النهاية أن يتم تطبيق الصيغ الإسلامية حسب الضوابط الشرعية.

بعدما تراجعت الثقة بالمنتجات المصرفية الإسلامية لماذا لا يوجد هناك بنك إسلامي للمنتجات، مهمته الرئيسة تزويد المؤسسات وتلبية احتياجاتها من المنتجات؟
المشكلة الكبرى ليس في مدى توافر المنتجات، لكن في مدى رغبة المؤسسات المالية في تطبيقها، واستعدادها لتحمل المخاطر والتكاليف المالية المرتبطة بتطبيقها كما ذكرت.
المعلومات مسألة ضرورية لكل باحث ومؤسسة ناشئة، وفي الغالب هناك شكاوى من الباحثين وجهات بحثية حول عدم نشر فتاوى الهيئات الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية المجاز منها والمختلف فيه لتجاوز الأخطاء والمشكلات .. ما السبب في ذلك؟
قد يكون هناك تراخ في النشر بسبب المنافسة في تطوير المنتجات وتجنب تقليدها، مع أن بعض الجهات بدأت بنشر فتاويها باللغتين العربية والإنجليزية مثل بيت التمويل الكويتي ومصرف الراجحي.

مع ارتفاع الأسعار يتم الحديث عن دور المؤسسات الاقتصادية الأهلية، وهي مقاربة اقتصادية إسلامية تشاركية تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار الاجتماعي والسياسي .. أين دور المصرفية الإسلامية في هذا الجانب في تحقيق مقاصد الشريعة؟
يتعلق هذا الموضوع بدور المصارف الإسلامية في التنمية الاقتصادية. وليس المطلوب من المصارف الإسلامية أن تقدم خدمات اجتماعية أكثر من غيرها، بل مجرد التزامها بالقيم الحقيقية للمعاملات الإسلامية، وبمجرد أن تفعل ذلك فإن التنمية والمساهمات الاجتماعية لعمل المؤسسات المالية سيأتي تبعاً لأن ضوابط التمويل الإسلامي تجعل منه وثيق الصلة بالنشاط الاقتصادي الحقيقي الذي يستفيد منه جميع أفراد المجتمع.

الاقتصاد العالمي يزداد تشابكا، وآثاره السلبية تطول اقتصادات العالم مثل الأزمة المالية وأزمة الدين، كيف يمكن حماية الاقتصاد الإسلامي من هذه التداعيات؟ وما منظور الاقتصاد الإسلامي لهذه الأزمة؟
السبب الأساس في الأزمة هو التوسع في التمويل بالدين من خلال القروض الربوية، وللشريعة موقفها الواضح من الدين، فهي لا تشجع على التوسع فيه. وخط الدفاع الأول لمنع وقوع هذه الأزمة هو منع الشريعة الخط السريع للتمويل بالدين، وهو القرض الربوي. وفي الواقع أننا لسنا محصنين من وقوع مثل هذه الأزمة في ظل توجه الصيرفة الإسلامية لتبني منتجات مقلدة للقروض الربوية مثل التورق وصكوك مقلدة للسندات.

الأكثر قراءة