الخدمة المدنية + العمل = وزارة الموارد البشرية (2 من 2)
نحتاج إلى مهندس أو مهندسي تغيير تنظيمي. فالقطاع العام في الوقت الراهن متضخم بوزارات وأجهزة متداخلة ومتعددة..
أما ''التداخل'' فإنه يتضح في غفلة بعض الأجهزة الحكومية عن مسؤولياتها واختصاصاتها المحددة لها، وتخبطها الإداري. فعندما تحل ''أزمة'' في البلد تتنصل كل جهة من المسؤولية وتلقي باللائمة على غيرها (كارثة سيول جدة مثلا)، ولما ُيصار إلى تدشين ''منجز'' تتدافع الجهة إلى إقحام نفسها بدور حتى لو كان هامشيا (افتتاح المشروعات مثلا). أما ''التعدد''، فقد اجتهدت مرارا محاولا أن أرسم مخططا تنظيميا للقطاع الحكومي بكل أجهزته لكني لم أفلح .. فالقلم جف مداده والقراطيس ضاقت عن ''المربعات''!
لقد غدا القطاع العام مترهلا من كثرة الوزارات والأجهزة الحكومية، وبات من الضروري التقدم بمبادرات تنظيمية تسهم في إعادته إلى رشاقته. ورغم ذلك الترهل، استغرب تحمس بعض الكتاب لاقتراح تشكيل وزارة لكل شيء: وزارة لشؤون المرأة، وزارة لحقوق الطفل، وزارة للبيئة، وزارة للسياحة، وزارة للاستثمار..
فبحق الله عليكم، ألا تكفيكم 23 وزارة لدينا (إن لم تكن أكثر!)؟
إنشاء وزارة ليس ''الحل السحري'' لمشكلاتنا التنموية. يجب أن ندرك ذلك. الوزارة في نهاية المطاف جهاز تنفيذي. وهذا الجهاز قد يكون فعالا وديناميكيا، وقد يعاني من البيروقراطية والقصور والتخبط، وابحثوا عمن يقودها. الحل ليس في شكل ''الكيان الإداري'' وزارة كان أو مؤسسة أو هيئة، إنما الحل في ''القيادة'' التي تسيّر دفة الكيان بكل كفاءة واقتدار. أما الشكل التنظيمي للكيان فهو ''قالب'' في النهاية لا يؤثر بقدر ما يؤثر البشر.
لعلنا نتفق أن القطاع العام يحتاج إلى مبادرات/ عمليات ''تخسيس'' كالتي نخضع لها من شفط للدهون وتدبيس للمعدة إلى تمارين رياضية وحمية صارمة. فالقاعدة للبشر أن يتناسب الوزن مع الطول، والقاعدة للمؤسسات أن تتنظم وفق الاختصاص. إذ لم تعد هناك أسباب مقنعة تبرر لنا الاحتفاظ بنظامين للعمل، ونظامين للتقاعد، ووزارتين للعمل، ومؤسستين للتقاعد، وشركتين استثماريتين للتقاعد، وثلاث مؤسسات للتدريب.
وإن إحدى مبادرات تنحيف هذا القطاع ''المفرط في البدانة'' دمج وزارتي الخدمة المدنية والعمل وما يستلزم ذلك من توحيد لأنظمة العمل والتقاعد ودمج مؤسستي التقاعد وشركتيهما الاستثماريتين ومؤسسات التدريب. ومن خلال متابعاتي الخاصة، أرى أن هناك 12 ميزة ستتحلى بها عملية دمج وزارتي الخدمة المدنية والعمل وإعادة الهيكلة الشاملة المترتبة عليها كالتالي:
الميزة الأولى
تكوين وزارة ''عصرية'' قوية وفعالة واحدة مسؤولة أمام مجلس الوزراء عن كل شؤون الموارد البشرية (التوظيف والتدريب والتأمين الاجتماعي) في القطاعين العام والخاص. فهذه الوزارة (العصرية) ستتمكن من رعاية التوجهات والمفاهيم والممارسات الحديثة في الموارد البشرية وترسيخها في سوق العمل السعودي. مع العلم أن وزير الموارد البشرية الذي يمثل شؤون القطاعين سيقوم بتمثيل شؤون القطاع العام فحسب عند انعقاد جلسات مجلس الخدمة المدنية.
الميزة الثانية
منع الازدواجيات على المستوى الحكومي عن طريق توحيد جهود الحكومة في توطين الوظائف والقضاء على البطالة وتنمية الموارد البشرية (التدريب) وتعزيز الرفاهية (التأمين الاجتماعي) وحصر تنفيذ هذه الجهود في جهات تنفيذية ''أحادية''.
الميزة الثالثة
منع الازدواجيات على المستوى التشغيلي والإداري والمالي في الجهات الناشئة عن الدمج عن طريق توحيد الإدارات والوظائف والخدمات والميزانيات وبالتالي تخفيض المصاريف التشغيلية/ الإدارية (خاصة بند الانتدابات المتضخم!).
الميزة الرابعة
تحقيق العدل والمساواة بين موظفي القطاع العام والخاص في الحقوق والواجبات. فلماذا يصرف لموظف القطاع الخاص مكافأة نهاية خدمة وموظف القطاع العام لا يصرف له؟ ولماذا يصرف لموظف القطاع الخاص بدل سكن ولا يصرف لموظف القطاع العام؟ (بالمناسبة، لجنة الإدارة والموارد البشرية التابعة لمجلس الشورى التي رفضت مقترح دمج الوزارتين رفضت أيضا مقترح صرف بدل سكن لموظفي القطاع العام!). لماذا تمتد فترة تجربة الموظف في القطاع العام إلى 12 شهرا بينما تنحصر فترة التجربة في القطاع الخاص في ثلاثة أشهر؟
سبحان الله .. لماذا ''تخفف'' واجبات صاحب العمل، و''تبتر'' حقوق الموظف .. إذا كان صاحب العمل ''جهة حكومية'' (مع التحية لكل من خدم الوطن على بند 105)؟ ولماذا ''تغلظ'' واجبات صاحب العمل و''تزداد'' حقوق الموظف .. إذا كان صاحب العمل ''جهة خاصة'' ؟ أليس من اللافت أن نظام الخدمة المدنية الذي يضبط القطاع العام (المدني دون العسكري) يتألف من 40 مادة فقط، في حين أن نظام العمل الذي ''يحكم'' القطاع الخاص مؤلف من 245 مادة (ستة أضعاف.. يا إلهي)؟ ألا يشدكم أن نظام التقاعد المدني مؤلف من 39 مادة في حين أن نظام التأمينات مؤلف من 70 مادة (الضعف تقريبا)؟
هناك حقوق وواجبات تمس الأصول (كالأمان الوظيفي أثناء الخدمة وضمان الدخل بعد التقاعد) من المفترض أن يشترك فيها موظفو القطاعين، وفي المقابل هناك حقوق وواجبات تمس الفروع (كساعات الدوام وأداء العمل) من الطبيعي أن تختلف بين القطاعين. وإن ما نرمي إليه هو تحقيق العدل والمساواة - فيما يمس الأصول - بين أبناء الوطن العاملين في القطاعين العام والخاص مما يعزز المنافسة بينهما في ظل نظام عمل واحد ونظام تقاعدي واحد.
الميزة الخامسة
تسهيل انتقال الموظفين بين القطاعين العام والخاص دون المساس بحقوقهم التقاعدية. حيث سيكون هناك نظام تقاعدي واحد تديره مؤسسة واحدة للتقاعد يتيح مواصلة الخدمة. فحاليا هناك حالة خوف من انتقال موظفي قطاع إلى القطاع الآخر لعدم إمكانية مواصلة الخدمة في ظل نظام تقاعدي واحد (مع تحفظنا على ''منافع'' نظام تبادل المنافع!). الكثير من موظفي القطاع العام ينتظرون إتمام سنوات التقاعد المبكر بفارغ الصبر لكي ينتقلوا إلى القطاع الخاص، وبالتالي يضمنوا تلقي المعاش من التقاعد فيما تبدأ خدماتهم في القطاع الخاص من الصفر في ظل نظام التأمينات!
كما أن تسهيل انتقال الموظفين بين القطاعين قد يسهم في تغيير ثقافة العمل لدى الشباب ويشجعهم على التوجه نحو القطاع الخاص الذي سيحظى بالأمان الوظيفي نفسه الذي يحظى به القطاع العام.
الميزة السادسة
صدور نظام تقاعدي واحد (مهجن) يجمع بين أفضل المزايا في كل نظام بما يصب في مصلحة المواطنين. فكما أوضحنا سابقا نظام التقاعد يتميز بتدني سن التقاعد المبكر (20 عاما) وصرف معاش للموظفين فاقدي الوظائف. أما نظام التأمينات، فيتميز بفرع الأخطار المهنية وطريقة احتساب المعاش (الراتب الأساسي مع بدل السكن). وهذه مجرد أمثلة عابرة لمزايا كل نظام، وهناك المزيد.
الميزة السابعة
توحيد جهود المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية من ناحية تقديم خدمات مركزية واحدة للتأمين الاجتماعي، ومن ناحية تشغيل الأموال (رائد + حصانة) مما يحقق للبلد محفظة استثمارية ضخمة بمليارات الريالات، مع ارتباط المؤسسة الموحدة (مؤسسة التأمين الاجتماعي) بوزير واحد هو وزير الموارد البشرية بدلا من الانفصال الحاصل الآن: المؤسسة العامة للتقاعد مرتبطة بوزير المالية (وليس وزير الخدمة المدنية) والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية مرتبطة بوزير العمل.
الميزة الثامنة
تسهيل عمليات الخصخصة الجارية حاليا بل تشجيع التوجه نحو الخصخصة في المستقبل، لا سيما إذا أدركنا أن من كبرى العقبات التي تواجه الخصخصة في السعودية هي صعوبة معالجة الحقوق التقاعدية لموظفي الجهاز المخصخص (المراد خصخصته) وانتقالهم من الخضوع لنظام التقاعد المدني إلى نظام التأمينات الاجتماعية دون ضياع سنوات الخدمة (مرة أخرى، نتحفظ على ''منافع'' نظام تبادل المنافع!).
الميزة التاسعة
توحيد جهود المؤسسات المعنية بالتدريب (معهد الإدارة العامة والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، وصندوق تنمية الموارد البشرية)، وتفعيل أدوارها في مجال التدريب بغض النظر عن أي الخيارات (السيناريوهات) التنظيمية - سواء مما طرحناه أو يطرحه غيرنا - سيتم اعتماده في المستقبل.
الميزة العاشرة
إلغاء التمييز العنصري الذي يمارسه بعض ''البيروقراطيين الحكوميين'' ضد القطاع الخاص باعتباره قطاعا ثانويا أو قطاعا من الدرجة الثانية معتقدين أن القطاع العام هو الأصل. فهذه نظرة ''اشتراكية'' لا تعترف بالقطاع الخاص أو تحترمه، ولا أدري كيف تغلغلت إلينا. ولعل أبرز المتضررين من هذا التمييز هم أصحاب وموظفي المؤسسات الخدمية الخاصة التي لها مقابل في القطاع العام كالمدارس والمستشفيات وخطوط الطيران وغيرها. فالأصل أن يكون القطاعان على الدرجة نفسها (الأولى). فالقطاع العام والقطاع الخاص يتممان بعضهما البعض، ولا يمكن الاستغناء عن قطاع والعيش بقطاع واحد.
الميزة الحادية عشرة
القضاء على السعودة الوهمية، حيث ستمتلك وزارة الموارد البشرية نظام معلومات واحد (نظام معلومات مؤسسة التأمين الاجتماعي) الذي يضم بيانات جميع الموظفين في القطاعين الخاص والعام، وبالتالي لا يمكن تسجيل موظف في نظام تقاعدي ما مسجل أصلا في نظام تقاعدي آخر، كما يحصل الآن!
الميزة الثانية عشرة
حفظ حقوق أصحاب العمل في القطاع الخاص من الموظفين الذين أساءوا إلى مشروع ''السعودة''، وأقصد بهم الموظفين ''الوثابين'' الذين يقفزون فجأة من جهة إلى أخرى دون إكمال مدد عقودهم أو الوفاء بالتزاماتهم. مما يسهم في ترسيخ الاستقرار في مؤسسات القطاع الخاص دون انقطاع مفاجئ أو تشويه لمشروعات السعودة.
التحديات المتوقعة
في المقابل، هناك جملة من التحديات نتوقع ظهورها خلال عملية الدمج منها عدم اقتناع بعض ''البيروقراطيين'' بمشروع التغيير متذرعين بمبررات مضادة لكننا نؤمل منهم تغليب المصلحة العامة على مصالحهم الشخصية، وظهور ''فائض'' من الموظفين من ذوي الوظائف المتكررة، وكيفية معالجة الحقوق التقاعدية لموظفي القطاعين خلال المراحل الانتقالية للدمج، وظهور مشكلات مالية لا سيما عند دمج التقاعد والتأمينات، وصعوبة دمج أنظمة المعلومات بين التقاعد والتأمينات على اعتبار أن التقاعد لا تملك قاعدة بيانات وافية حول خدمات الموظفين والجهات التي خدموا فيها مهما تعددت خلافا للتأمينات، وغير ذلك من التحديات التي يمكننا أن نضع لها الحلول الملائمة عبر خطط مدروسة وفق إطار زمني محدد.
دعوة أخيرة
نظرا لأن النقاش داخل أروقة مجلس الشورى يستأنف بعد عيد الفطر المبارك، فإنني أحث عضوي الشورى الدكتور سعيد الشيخ والأستاذ أسامة قباني على إعادة طرح مقترح دمج وزارة الخدمة المدنية ووزارة العمل مؤملا أن يكون المقال بجزئية الأول والثاني قد كشف عن جوانب تزيد من تمسكهما بمقترح الدمج.
كما أنني أدعو اللجنة الوزارية للتنظيم الإداري التي شكلت عام 1999م (وهي للإيضاح تختلف عن اللجنة العليا للإصلاح الإداري التي شكلت عام 1963م)، وحققت عدة إنجازات تنظيمية وإدارية على مستوى الدولة منها على سبيل المثال فصل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إلى وزارتين مستقلتين، وإلغاء مجلس القوى العاملة، وتحويل مصلحة معاشات التقاعد إلى مؤسسة عامة أدعوها إلى أن تتبنى مشروع دمج الوزارتين وما يترتب على ذلك من إعادة هيكلة شاملة. ولو حدثت العملية فسوف تعد في رأيي أكبر عملية تغيير تنظيمي من حيث الحجم والأثر تشهدها السعودية في تاريخها المعاصر.
كاتب ومتخصص في إدارة الموارد البشرية