المثقفون في الفضائيات .. ماذا بالضبط يريدون؟
تتحفنا وسائل الإعلام بين الحين والآخر ببعض الحوارات مع بعض المثقفين لتسويق برامجها، وجذب مشاهديها، وبناء علامتها التجارية. ونقبل عليها بكل شغف أملا في أن نستفيد من الكثافة المعرفية والعمق العلمي الذي يحملونه، إلا أنها تخيب ظنوننا وتحطم آمالنا حينما يبدأ الحوار فلا نرى سوى الشجار والعراك وكأنهم أتوا لتصفية حساباتهم أمام الناس. نراهم يتبادلون التهم ويتراشقون بالكلمات النابية ويحاولون جاهدين التشكيك في بعضهم وتغليب المصالح الشخصية على أكتاف قضية وطنية. كل هذا يحدث على الهواء مباشرة، والعجيب أن جلهم يرددون على أسماعنا في برامج أخرى كيفية احترام الرأي الآخر، وأهمية ترسيخ مبادئ الحوار، وتشجيع الناشئة على حرية التفكير.. ومن كل هذه المصطلحات. ونحن نسأل كيف يستطيع هؤلاء أن يرسخوا في أذهاننا مبدأ الحوار واحترام الرأي الآخر وهم أول من ينتهك قواعده ويحطم مبادئه؟
ولكن ليس معنى هذا أن ليس لدينا مصادر ثقافية تغذي الفكر وتزيد المعرفة وترتقي بالناس. فهناك نماذج وضاءة ومنارات عملاقة تشع بها الفضائيات تفيد كل من يبحث عن الحقيقية، أو يطور فكرة، أو يكسب معلومة. إلا أن مقالي هذا موجه إلى الذين اختلط عليهم الأمر وبينهم صراعات، وخلافات فكرية، وشخصية، ويريدون تصفيتها أمام الناس. وحتى لا نبتعد عن القضية دعونا نصنف شواذ المثقفين الذين يُستضافون في البرامج الحوارية في الفضائيات إلى ثلاثة أقسام رئيسية. الصنف الأول لا يرى في الساحة غيره ويعتقد أنه المرجعية في كل شيء وأن له الحق فيما يقول، وأنه هو الحريص على بلده ومكتسباته وما عداه خائن وأجير (لقد سمعت هذه الكلمة من أحد المفكرين على الهواء وهو يصف من يتحاور معه). هؤلاء يحاولون جاهدين استثمار المرحلة الرمادية التي تمر بها المجتمعات العربية نحو الاستقرار الفكري والثقافي وقبول الغير.
وأقول لهؤلاء يجب عليكم عندما تقبلوا الحوار حول قضية تهم أوطانكم وتجدون في الطرف الآخر من يخالفكم الرأي فلتظنوا به الظن الحسن ولتبتعدوا عن التشكيك خصوصا في الانتماء والولاء فهذا سلاح ضعيف، قليل الحجة، فاقد البرهان وعليكم ألا تحاولوا ركوب الموجة وادعاء حب الوطن دون غيركم فإنكم بفعلتكم هذه تشقون الصف، وتشعلون الفتنة، وترجفون في البلاد، وتقسمون الناس إلى ملل وطوائف يذيق بعضهم بأس بعض. وإذا أردتم احترام الناس فعليكم قبول بعضكم واحترام ذواتكم وإخضاع كل الأفكار المطروحة للنقد والتمحيص الخالي من التشهير وتضخيم المثالب، فكل يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
أما القسم الثاني فهم على النقيض تماماً نراهم يتهكمون على بلادهم، ومجتمعاتهم، ويجزمون بأن سبب تخلفها إيمانها بفكر سطحي عفى عليه الزمن، وهذا الصنف ارتضوا أن يصنفوا كمعارضين، وأظنهم لا يعلمون أن ما يطرح في وسائل الإعلام من تحليلات نقدية وبرامج توعوية وحوارات تنويرية أعمق وأجدى وأقوى مما ينادون به، وبفعلتهم هذه يجعلون غيرهم يستثمرون جهلهم. وأقول لهؤلاء عليكم العودة إلى الصف الذي ينادي بالوحدة لتساهموا في البناء والعطاء وروعة الإنتاج، فليس هناك أمرّ من إنسان يتبرأ منه وطنه ويرفضه مجتمعه. وإنني أربأ بكم أن يستغلكم من يريد أن يتسلق على أكتافكم لمصالح شخصية وأهداف تدميرية. ارجعوا إلى الوحدة الوطنية وانثروا أفكاركم ومقترحاتكم في وسائل إعلامها، فهي أجدى لكم وأنفع لنا.
أما القسم الثالث فلا ندري ماذا يريدون بالضبط؟ ولا يعلمون من أين يبدأون؟ وكيف ينتهون؟ ويحاول هؤلاء جاهدين فصل أنفسهم عن الانتماء إلى أي فئة. يتجنبون الغور في أعماق الموضوع، وترعبهم الحقيقة، ويبدأ البرنامج وينتهي وأنت لا تدرى ماذا يريدون؟ تراهم يسعون إلى أنصاف الحلول والعبارات غير الواضحة لأن هدفهم الأسمى الظهور على الشاشة، وهم بالفعل عبء على الوجود وجودهم. لا تخلص منهم إلى جواب مقنع، يظهر عليهم أنهم يخاطبون أنفسهم، وقد لا يعلمون أن المشاهدين والمسؤولون ينظرون إليهم وينتظرون منهم حلاً لمعضلة تواجههم أو مشكلة تقف أمامهم. وأقول لهؤلاء عليكم البعد عن أنصاف الحلول، وإذا لم تمتلكوا المهارة، والأهلية، والقدرة على إدارة مثل هذه الأمور فامسكوا عليكم بيوتكم وارشدوا القناة إلى من هو أقدر منكم، فمهارات الحوار تحتاج إلى ذكاء، وخبرة، وسرعة بديهية وليس بالضرورة أنك كاتب جيد أن تكون محاورا جيدا، وليس من المفترض أنك كمفكر حذق أن تكون خطيبا مفوها.
نرجو منكم جميعا أن تكونوا على قدر المسؤولية وألا ترسخوا في أذهان الشعوب أننا بالفعل لا نفقه آداب الحوار ولا نعي أخلاقيات الحديث. فعليكم مراعاة الله فيما تطرحونه وتغليب المصلحة العامة فيما تناقشونه، وأن تعرضوا أفكاركم بمصداقية وثقة وتبتعدوا عن القدح، والهمز، واللمز، والتجريح واستخدام الألفاظ النابية، والتشهير، ومسك العصا من الوسط، حتى لا يتجرأ تلميذا مثلي أن يكتب عنكم مقالا كهذا.