أزمة الدَّين الأمريكي وانعكاساتها على الاقتصاد العربي
عاشت الأوساط والقوى الاقتصادية والمالية العالمية، خلال الأسابيع القليلة الماضية حالة من الهلع والارتباك والترقب، وهي تتابع وقائع وتداعيات أزمة الدَّين الأمريكي، التي انتهت إلى توصل الإدارة الأمريكية مع زعماء الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتفاق اللحظة الأخيرة، وذلك بعد جدل حاد ومفاوضات صعبة بينهما، قدم فيها الطرفان تنازلات عديدة. ويقضي الاتفاق برفع سقف الدَّين العام الأمريكي وخفض الإنفاق بنفس المقدار، بما يعني تفادي عجز أو تخلف الولايات المتحدة الأمريكية عن سداد ديونها، وبالتالي تجنب إعلان إفلاسها.
وكان يمكن أن تسبب هذه الأزمة - لو لم يتمّ التوصل إلى حلها - تداعيات كارثية، لا تطاول الاقتصاد الأمريكي فقط، بل تطاول معه كل من الاقتصاد والنظام المالي العالميين، نظراً لأن الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر في العالم، ويتحكم بالنظامين المالي والاقتصادي في عالم اليوم. لكن وبالرغم من أنه قد جرى، هذه المرّة، تجنب التعثر الأمريكي في سداد الديون، إلا أن الإشكاليات والصعوبات في النظامين المالي والاقتصادي الأمريكي ستبقى قائمة، الأمر الذي يوجه جرس إنذار خطر، للداخل الأمريكي وللخارج أيضا، أي لقطاعات واسعة من الشعب الأمريكي ولشعوب ودول العالم الأخرى التي تستثمر داخل الولايات المتحدة، وخاصة تلك التي تستثمر في سندات الخزينة الأمريكية.
وينص الاتفاق الذي أقرّه الكونجرس الأمريكي، في الأول من شهر أب (أغسطس) الحالي، على رفع سقف الدين العام الفيدرالي بمقدار 2400 مليار دولار على مرحلتين حتى نهاية عام 2012، ويلبي هذا الرفع مطلب الديمقراطيين بتفادي، من جهة عدم الحاجة إلى رفع جديد خلال شهور، كما ينص على خفض النفقات بنفس المقدار وعلى مرحلتين، تبدأ الأولى منها فور إقرار الاتفاق، وتبلغ قيمتها ألف مليار دولار على مدى عشر سنوات، وتشمل قطاع الدفاع إلى جانب قطاعات أخرى، حيث تبلغ حصة الخفض في نفقات الدفاع مبلغ 350 مليار دولار على عشر سنوات، ونال الجمهوريون تنازلا يقضي بعدم فرض الاتفاق ضريبة على الأغنياء، وبتأليف لجنة نيابية من الحزبين مهمتها اقتطاع 1800 مليار دولار من الإنفاق، وتحديد مختلف اقتطاعات المرحلة الثانية.
أسباب الأزمة
تعود أسباب أزمة الدَّين الأمريكي إلى جملة من العوامل، منها ما يتعلّق بطبيعة النظام المالي والاقتصادي الأمريكي، ومنها ما يعود إلى النفقات الكبيرة على الدفاع والقوات العسكرية الأمريكية المنتشرة في أغلب بقاع العالم، ومنها ما يعود إلى التنافس الحزبي والصراع السياسي الدائر بين أعضاء مجلسي الكونجرس والشيوخ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حول كيفية رفع سقف الاستدانة المسموح به للإدارة الأمريكية، لكي تتمكن من الوفاء بالتزاماتها المالية، إلى جانب تفاقم عجز الموازنة الأمريكية نتيجة الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي والعالمي، وأجبرت الإدارة الأمريكية الحالية على ضخ كميات هائلة من الأموال؛ بغية تجاوز آثار الأزمة وإنعاش قطاعات اقتصادها، إضافة إلى التراجع في عائدات الضرائب في الولايات المتحدة الأمريكية وسوى ذلك.
غير أن السبب الرئيس للأزمة تجسد في الخلافات السياسية ومحاولة كل من الحزبين إحراج الحزب الآخر، حيث سيفضي عجز الحكومة عن الاستدانة إلى تعطيل برامجها الداخلية بشكل كبير؛ نظرا لأن سقف الدَّين يمثل الحد القانوني المسموح به للاستدانة، وعدم رفعه يعني أنها لن تستطيع أخذ المزيد من القروض، كي توفر الأموال الضرورية للوفاء بالتزاماتها المالية، التي تمكنها من دفع نفقات الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية وأجور العسكريين وفوائد الدين، الأمر الذي منح قادة الحزب الجمهوري فرصة للاستفادة من المنافسة، وتسجيل النقاط على الحزب الديمقراطي في سياق التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستجري في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2012.
وقد وصل حجم الدَّين المترتب على الولايات المتحدة إلى حدود 14.3 تريليون دولار، أي ما يعادل 130 ألف دولار تقريباً لكل مواطن أمريكي، ويساوي هذا الرقم، بلغة الحسابات البسيطة، خمسة أضعاف معدل دخل الفرد السنوي في الولايات المتحدة الأمريكية. فيما يصل حجم الاقتصاد الأمريكي إلى حدود 14.7 تريليون دولار، أي أن نسبة الدَّين تصل إلى أكثر من 97 في المائة من الناتج الأمريكي الإجمالي، بينما لا تبلغ تلك النسبة أكثر من 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في جميع دول العالم الأخرى. وتشير التقارير المالية الصادرة عن دائرة الخزينة الأمريكية إلى أن أكثر من 60 في المائة من إجمالي الدين المالي، المترتب على الحكومة المركزية الفيدرالية، يعود إلى مستثمرين وبنوك حكومية ومركزية وخاصة وشركات ومؤسسات تأمين إقليمية ودولية. وهنالك من الخبراء الاقتصاديين من يرى بأن حجم الدَّين الأمريكي يتجاوز 14.3 تريليون دولار أمريكي، بالنظر إلى ضخامة نفقات خطة الدعم المالي التي بدأت في أواخر عام 2007، وقام بها البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، إضافة إلى الالتزامات والنفقات العديدة الأخرى.
ويمثّل المبلغ الذي وصل إليه الدَّين الأمريكي (14.3 تريليون دولار أمريكي) أعلى رقم مسموح به بحسب القوانين الأمريكية، ولا يستطيع الرئيس الأمريكي وحده، بحسب الدستور الأمريكي نفسه، أن يرفع سقف الدَّين، بل يحتاج إلى موافقة الكونجرس، عملا بمبدأ تحديد سقف الدَّين الذي اعتمد عام 1917؛ بغية تسهيل مهمة الحكومة في تلبية حاجاتها المالية لمواجهة نفقات الحرب العالمية الأولى في ذلك الوقت، ثم رفع سقف الدين عدة مرات خلال التاريخ الأمريكي، إضافة إلى أن العكس قد حصل خلال فترة خمسينيات القرن العشرين المنصرم، حيث جرى تخفيض سقف الاستدانة مرتين.
وتظهر لغة الأرقام أن أزمة الدّين الأمريكي اشتدت خلال السنوات العشر الماضية، حيث كان سقف الدَّين في عام 2000 يصل إلى حدود 6.95 تريليون دولار، في حين أن هذا السقف وصل في هذا العام إلى حدود 14.3 تريليون دولار؛ ما يعني أنه تضاعف أكثر من مرة خلال عشر سنوات.
انعكاسات الأزمة
أثارت أزمة الدَّين الأمريكي، قلق دول العالم والمستثمرين في الأسواق المالية العالمية، وتسببت في فقدان الدولار الأمريكي جزءا من قيمته، وانخفاض أسعار البترول الخام، وتراجع الأسهم الأوروبية والآسيوية بنسب قياسية، فيما عرفت أسعار الذهب مستويات قياسية مرتفعة، لكن ما أثار قلق الأسواق بشدة هو عدم اكتراث أوساط الحزب الجمهوري وعدم التحمس لإيجاد حلّ سريع للأزمة؛ إرضاء من قياداته لأنصار "حزب الشاي" وقادته، الذين لم يكترثوا بها ولم يتعجلوا لحلها، انطلاقا من اعتقادهم بأن البنوك والمؤسسات الدولية ستظل تشتري السندات الأمريكية؛ لذلك فإن الخطير في الأمر هو أن الأيدي الأمريكية هي التي سببت الأزمة، فأضرت بصدقية الموقف الأمريكي، حيث تصرفت الولايات المتحدة الأمريكية وكأنها أفلست، ولم يعد بإمكانها أن تسدد الديون المترتبة عليها.
ويعكس كل ذلك مدى تأثير أية أزمة مالية أو اقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية على الاقتصادات والأسواق العالمية؛ نظرا لسيطرتها عليها، ولقدرتها على التحكم بالمؤسسات المالية والنظام المالي العالمي، الموروث من عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عظمى، حيث استخدمت أصولها المالية واقتصادها القوي لخدمة مصالحها ونفوذها بعد انتهاء تلك الحرب، فراحت تتحكم بكافة المؤسسات الدولية، التي أنشأت بحسب معاهدات "بريتون وودز"، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي واتفاقية التجارة الحرة، التي استبدلت لاحقا بمنظمة التجارة العالمية.
ونظرا للحروب العديدة التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى يومنا هذا، حيث ما زالت متورطة في حرب أفغانستان وفي العرق وسواها، فإن أموالا هائلة صرفتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض على نزعة العسكرة والتسلح وخوض الحروب. وقد بلغت الموازنة العسكرية الأمريكية، في أيامنا هذه، ما يعادل 40 في المائة من حجم الإنفاق العسكري في كل دول العالم مجتمعة.
وقد بينت التقارير المالية الصادرة في هذا العام عن دائرة الخزينة الأمريكية، أن ما يزيد على 4.5 تريليون دولار أمريكي مستثمرة فقط على شكل سندات وأذونات الخزينة، حيث تتصدرها الاستثمارات الصينية، ثم اليابانية والبريطانية وسواها. أما الاستثمارات والأموال العربية فليس هناك أرقام دقيقة في هذا الخصوص، وتقدرها بعض المؤسسات بنحو 220 مليار دولار أمريكي، وبعضها الآخر يقدرها بأكثر من 400 مليار دولار، وجميعها استثمارات حكومية، تابعة للبنوك المركزية في البلدان العربية، التي تحتفظ معظمها احتياطياتها من العملات الأجنبية في الدولار الأمريكي، وذلك من خلال شرائها لتلك السندات وأذونات الخزينة الأمريكية. وهناك استثمارات عربية في القطاع الخاص الأمريكي، إلى جانب الاستثمار في أسواق الأسهم والسندات الصادرة من الشركات الأمريكية، وتقدر بأكثر من 630 مليار دولار أمريكي، إضافة إلى استثمارات في بلدان وشركات وأسواق مالية، غالبية استثماراتها في أسواق في الولايات المتحدة.
ولا شك في أن الاتفاق الذي أقره الكونجرس الأمريكي سيفضي إلى انتعاش الأسواق واسترداد بعض خسارتها، وقد يؤدي إلى زيادة أسعار الفائدة المصرفية على الإصدارات الجديدة من أذونات الخزينة والسندات الأمريكية، وإلى استقطاب وجذب أنظار المستثمرين والبنوك الاستثمارية والمركزية وشركات التأمين وسواها. لكن تكرار المشكلات والعقبات في النظام المالي والاقتصادي الأمريكي، سيؤدي إلى ارتفاع الأصوات المطالبة بإعادة تشكيل خريطة الاقتصاد الدولي، وإعادة النظر في سياسات الاستثمار وإدارة الاحتياطيات المالية، وسيترتب على جميع الدول والشركات والبنوك المركزية الحكومية والخاصة التفكير، بل والعمل على إعادة بناء ودراسة وتنظيم احتياطياتها المالية والاستثمارية.
التأثر العربي
تواجه الاستثمارات العربية، الخاصة والعامة، في الولايات المتحدة الأمريكية وفي البلدان الأوروبية، مشكلات حقيقية؛ لذلك فإن أصحابها مطالبون بتنويع استثماراتهم إلى الحدود التي تسمح لهم بذلك، بالنظر إلى انعكاسات وتأثيرات أية أزمة قد تحدث عليها، وعلى اقتصاديات البلدان العربية. ويبدو أن التأثر العربي بالأزمات التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي هو تأثر كبير وكارثي في بعض الأحيان في ظل تراجع قيمة الدولار على الصعيد الدولي، حيث إن معظم عملات البلدان العربية، مرتبطة بالدولار، الأمر الذي يجعلها عرضة لخسائر كبير جدا؛ ذلك أن الدولار الأمريكي تعرّض، خلال السنوات العشر الماضية، إلى تراجع بنسبة 50 في المائة بالمقارنة مع اليورو؛ ما يعني أن مدخولات الدول العربية بالدولار قد فقدت بدورها نصف قيمتها خلال الفترة نفسها. وهناك من يشكك في إمكانية استرجاع الأموال العربية المستثمرة في الولايات المتحدة كسندات في الخزينة الأمريكية، بالإضافة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية. والأسوأ من ذلك هو تخفيض الإدارة الأمريكية لمعدل الفائدة على الدولار إلى نسبة 1 في المائة، ما يعني أن تلك السندات لا تجني ما يغطي التضخم، وتتعرض لخسارة كبيرة عندما تنخفض قيمة الدولار. وعليه، فإن تراجع إيرادات رؤوس الأموال العربية في الخارج لا يدع مجالا لتوافر فائض كاف للاستثمار.
ويمكن القول إن اقتصادات الدول العربية ستبقى عرضة لانعكاسات وتأثيرات أية هزة أو أزمة في الاقتصاد العالمي، والأجدى هو أن تتجه الدول العربية إلى إيجاد ممكنات تكامل اقتصادي فيما بينها، والتركيز على تقوية قطاعات الاقتصاد في كل دولة، والتخفيف من الانعكاسات السلبية للعولمة.