مدرسة الصندوق المغلق
ما من شك أن الربط بين النظرية والتطبيق فيه صعوبة بالغة ذلك أن الإلمام بالشيء من الناحية النظرية أسهل، وأيسر من التنفيذ للشيء، وجعله أمراً واقعاً في الميدان، ولذا ما أكثر من يتحدث عن كثير من الأشياء، ويطرح الاقتراحات، ويرمي بالنقد لهذا الشيء، أو ذاك، ولكن حين يناط أمر من الأمور بهذا الفرد تجده لا يجيد التنفيذ بل كل ما يجيده لغة الكلام، والحديث، واجترار الأفكار ذاتها دون قدرة على الانتقال بهذه الأفكار إلى برامج عمل يتم بموجبها تحويلها إلى شيء ملموس.
تأملت في هذا الموضوع محاولاً معرفة الأسباب التي تجعل البعض عاجزاً عن التنفيذ، ومقتصراً على الحديث فقط فألفيت أن التربية، والتعليم هي المعنية بهذا الأمر في المقام الأول، فالطريقة التي نشأنا عليها سواء في المنزل، أو في المدرسة لها أكبر الأثر في وجود الشقة بين النظرية، والتطبيق. إن ما يحدث في الفصل الدراسي يمثل حجر الأساس في غرس أسس، ومقومات الميل للفعل، والتطبيق بدلاً من الاقتصار على الكلام دون الفعل، أو محاولة تطبيق ما يتعلمه الفرد.
الفصل الدراسي من الممكن أن يتحول إلى صندوق مغلق لا يعلم من بداخله شيئاً عن البيئة الخارجية، ولا يعرف علاقة ما يدرسه بما هو موجود خارج الفصل، أو خارج المدرسة، وفي ميدان الحياة العامة، حتى النور الطبيعي الصادر من أشعة الشمس ربما لا يتسنى لمن هو داخل الفصل أن يراه، وربما أنه يدرس موضوع الشمس في مادة العلوم لكن الفرصة لا تتاح له لكي يربط ما قد يجده في الكتاب المدرسي، وما يقدمه المعلم، وبين واقع الشمس التي يتحدث عنها الكتاب. إشكالية ربط المعارف، والعلوم التي يدرسها الطلاب بالمجتمع، والبيئة كانت محل اهتمام الكثير من فلاسفة، ومفكري التربية حتى إن البعض نادى بأن تكون العملية التربوية قائمة على الممارسة المباشرة، فبدلاً من الحديث عن الحرارة، والبرودة يرى ضرورة ترك الطفل يتعامل مع هذه الأشياء بصورة مباشرة حتى ولو ترتب على هذا إضرار بصحة الفرد طالما أنه يخبر الشيء، ويجربه بنفسه بدلاً من تعليمه الشيء من خلال طرح نظري لا يقربه للحقيقة.
ما نراه، ونلمسه من قصور في تطبيق المفاهيم، وتحويلها إلى واقع ملموس عند بعض الطلاب، وهذا ما يلمسه من يتفاعلون مع خريجي التعليم العالي، وكذلك التعاليم العام في ميادين العمل، حيث يلاحظون وفرة المعلومات لكن مع عدم قدرة على ترجمة هذه المعلومات إلى أفعال حتى إن بعض المشرفين على بعض خريجي الجامعات العاملين في الميدان يرون أن الطلاب متشبعون بالجانب النظري مع قصور واضح في مهارات تنفيذ هذه المعلومات. لتفسير هذه الظاهرة يلزم أن نسأل هل الخلل يعود إلى طريقة التعلم، والذي يركز فيه على الجانب النظري في حين يكون حظ الجانب العملي، والتطبيقي قليلاً أم يعود إلى أسباب أخرى؟ باسترجاع بعض خبرات الطفولة، وبالأخص في المرحلة الابتدائية، والمتوسطة أجد أن تلك المرحلة الدراسية كانت من أمتع سنين الدراسة، إذ إن الجانب التطبيقي، والعملي ملازم للجانب النظري، وكان المعلمون كل في مجاله يحرص على التطبيق، والممارسة كحرصه على الجزء النظري. معلم مادة الفقه على سبيل المثال كان يطالبنا بتطبيق عملية الوضوء، والصلاة، حيث يأخذنا إلى البئر القريبة من المدرسة، ويستخرج الماء، ونقوم بتطبيق الوضوء، كما أن معلم العلوم ليس أقل حرصاً على التطبيق إذ كان يأخذنا إلى ساحة المدرسة حيث النباتات، والأشجار ويكون الدرس مباشراً حول طبيعة الأشجار وأجزائها من ورق، وسيقان، وجذع، وألوان.
لماذا يفعل معلم الأمس هذا الشيء، ونفتقده في الوقت الراهن؟ السبب في ظني يعود إلى الدافعية العالية التي كانت تحركه ليرتقي بطلابه إلى التعلُمِ، ولا يقتصر على الجانب النظري فقط بل التطبيق، والممارسة، وهذا هو المهم في الحياة، كما أن انتساب معلم الأمس لمهنة التعليم الانتساب المهني وليس الوظيفي بكل ما يعنيه ذلك من إخلاص، واتجاهات إيجابية نحو العمل إضافة إلى نظام المتابعة والمساءلة القائم في ذلك الحين ربما تكون أسباباً لذلك التميز للعملية التعليمية في ذلك الوقت مع قلة الإمكانات، ونقص وسائل التعليم.
لتنجح العملية التعليمية لا بد من أن يكون الفصل الدراسي بل المدرسة بكاملها منفتحة على المجتمع بدلاً من أن نحولها إلى صندوق مغلق، الطلاب بحاجة إلى معرفة المجتمع بكافة تفاصيله، وإيجابياته وسلبياته، وحاجاته، وجوانب قوته، ومصادره الطبيعية، المدرسة لابد لها من أن تنتقل إلى المجتمع، ولا بد للمجتمع أن يكون حاضراً داخل المدرسة في كافة شؤونه، وهمومه. أما إن اختار المجتمع فلسفة تحويل الفصل إلى صندوق مغلق فهذا من شانه قتل العقول، والمواهب بدلاً من تنميتها كي يستفيد منها المجتمع في المجالات كافة.