المرصد العربي لقراءات وتحليل اتجاهات الرأي العام
إذا كان من أمر يميز القرن الواحد والعشرين فإنه التسارع الكبير في المتغيرات، حتى أصبحت مقولة ''من لا يتقدم يتقادم'' واضحة لكل من يتأخر عن مواكبة التغيرات المتسارعة في أي مجال كان ولو لفترة قصيرة بخلاف القرون الماضية، حيث التغير بطيء ويمكن رصده وملاحقته والتفاعل معه بسهولة متى ما توافرت الإرادة والآليات، وأكاد أجزم بأننا، نتيجة لقوة هياكل الابتكار والاختراع في كافة المجالات التي نمت وتضخمت في الدول الرأسمالية، أصبحنا في حالة إقلاع دائم لا يمكن أن نستقر فيها إلا إذا قررنا مغادرة نشاطنا أياً كان، والتقاعد في مكان بعيد في إحدى القرى أو البوادي التي لم تعد هي الأخرى مكانا مناسبا للراحة بعد أن غزتها تقنية الاتصالات التي دمجتها مع كافة مدن العالم، أرادت ذلك أم أبت.
أحد أهم الميادين الذي تتضح فيه التغيرات المتسارعة التي تؤثر بالتبعية على كافة أوجه النشاط في ميادين الحياة الأخرى، هو ميدان تقنيات التواصل وبرمجياتها التي باتت تثقل عقول وموازنات أفراد الأسر، لما تتطلبه من تكاليف باهظة لملاحقة تطوراتها من جهة شراء الأجهزة والبرمجيات وخدمات التشغيل، وما تتطلبه من جهد فكري متواصل لملاحقة مستجداتها من جهة المواقع ومن جهة ما يُصنع وما يُعرض من محتوى في هذه المواقع. نعم لقد بات كل رب أسرة يتحمل تكاليف باهظة لأتمتة منزله وتمكين نفسه وأفراد أسرته من مواكبة التغيرات التقنية حتى لا يتقادم، كما بات كل فرد منا مضطرا للاشتراك في أكثر من موقع تفاعلي لمواكبة التغيرات الفكرية والمعرفية.
التغيرات المتسارعة تحدث في كل الميادين المادية الملموسة ويمكن رصدها والاستجابة لها بشكل وبأخر بما يحقق المنفعة منها وتجنب مخاطرها أو ضعف التعامل معها، ولكن التغيرات المتسارعة غير الملموسة التي لا يمكن رصدها بسهولة، هي تلك التغيرات في اتجاهات الرأي العام المترتبة على التغيرات المتسارعة في المعارف والمعلومات والقيم والمفاهيم والمبادئ والمواقف المتأثرة بشكل كبير بثورة تقنية المعلومات وصناعتها وتداولها والتفاعل معها، فضلا عن تزايد معدلات السفر للخارج وما يترتب على ذلك من تثاقف مع الشعوب الأخرى. نعم هناك تغير متسارع في الوعي حيال كل القضايا والمشاكل، وبالتالي اتجاهات الرأي العام وبالسلوكيات بالمحصلة. بكل تأكيد ما يمر به العالم العربي اليوم من ثورات وغياب لغة تفاهم مشترك بين معظم قياداته وشعوبها التي تغير وعيها بشكل متسارع، لأن القيادات العربية لم تعتد التعامل مع التغيرات المتسارعة في اتجاهات الرأي العام وما يترتب عليها من مواقف وسلوكيات، كما أنها لم تؤسس لهياكل قادرة على رصد التغيرات المتسارعة في الرأي العام والمواقف والسلوكيات وتحليلها وتشخيصها وطرح أساليب التعامل الناجعة مع هذه التغيرات بالسرعة الملائمة. ولا شك أن ضعف هياكل الرصد وسع الفجوة بين وعي القيادات ووعي الشعوب، ما أصّل لحلول غير فاعلة على أرض الواقع للتعاطي مع السلوكيات الجديدة للشعوب العربية، رغم ظن القيادات بقوة فاعلية وكفاءة حلولها حسب معرفتهم لاتجاهات الرأي العام السابقة، التي يظنون أنها ما زالت قائمة إلا أنها وحسب ما رأينا لم تكن سوى حلول تفاقم المشكلة بشكل متسارع أيضا، حيث تتغير طلبات المعارضين بشكل متسارع هي الأخرى لتنتقل من مطالب معيشية إلى مطالب سياسية كبرى. وبكل تأكيد الحالة التونسية وكذا المصرية والليبية واليمنية والسورية أمثلة تؤكد ذلك بشكل جلي.
أي مواطن في أي دولة كانت لا يهمه الفكر السياسي الذي يحكمه ولا الفكر الاقتصادي الذي تنتهجه قيادة البلاد بقدر ما يهمه مستوى حريته وكرامته ومعيشته وتوافر بيئة عادلة لإطلاق طاقاته ومواهبه ورؤاه. نعم فأي نظام سياسي وأي نظام اقتصادي يحترم حرية الإنسان ويحفظ له كرامته ويحقق له مستوى معيشة عالية من جهة السكن والعلاج والتعليم والضمان الاجتماعي وتوفير الفرص الوظيفية والترفيه وغير ذلك من متطلبات العيش الكريم، ويمكن هذا الإنسان من إطلاق طاقاته وممارسة مواهبه والتعبير عن رؤاه .. نعم أي نظام يحقق ذلك هو نظام مرحب به من قبل المواطنين لأن الغاية النهائية محققة، وكلنا نعلم أن أي نظام يوفر ذلك هو نظام عادل محبوب من معظم مواطنيه إن لم يكن كلهم، وبالتالي فإن النظام الديمقراطي ليس غاية بحد ذاته.
معظم البلاد العربية - والدول الخليجية منها على وجه الخصوص - حققت إنجازات كبيرة في كافة مجالات التنمية، ولا شك أن بلادنا حققت إنجازات كبيرة في كافة المجالات التنموية رغم الصراعات سياسية والحروب العسكرية التي مرت بها المنطقة خلال أكثر من 70 سنة مضت، ما أصّل لحياة كريمة عالية المستوى نحرص جميعا على المحافظة عليها وتنميتها، وهو أمر يتطلب تضافر كبير بين كافة الجهود الحكومية والخاصة والأهلية، وبكل تأكيد هذا التضافر يتطلب وجود وعي مشترك ومتقارب بين كافة الأجيال بما يمكن الجميع من تحقيق التفاهم المشترك في مواجهة القضايا والمشاكل والتحديات التي تواجه التنمية المرتبطة بمستوى معيشة الإنسان في كافة مجالاتها، وهو أمر يتطلب دراسات علمية شاملة ودقيقة ومستمرة للتعرف على اتجاهات الرأي العام المتغيرة بشكل متسارع والاستجابة لها بشكل متسارع أيضا.
ومن أجل الوصول للوعي المشترك القائم على فهم حقيقي لاتجاهات الرأي العام السائدة أعتقد أنه حان الوقت كي نتخلى عن الانطباعات الشخصية والتوجه لمنهجية علمية في رصد التغيرات المتسارعة في الرأي العام العربي وتحليلها وتشخيص الأوضاع القائمة والتعامل معها بعلمية ودقة بقرارات وإجراءات تعزز الوحدة الوطنية وتعزز اللحمة بين القيادة والمواطنين وتدعم خطط التنمية المحققة لتطلعات المواطنين بمستويات معيشة كريمة، وأعتقد أن مرصدا عربياً لقياس التغيرات المتسارعة وتحليلها وتشخيص الواقع بات أمراً ملحا للتعاطي الأمثل مع القضايا والمشاكل والتطورات في عالم يموج بحراك متسارع يجعل الحليم حيران.