اغتيال الحقيقة

يبدو أن الحقيقة مرة على البعض يسعون جاهدين لإخفائها والتستر عليها، وإن أمكنهم ذلك لقتلوها، لأن في الحقيقة كشفا لعورة يراد لها أن تبقى مطمورة، ولا يعلم بها إلا من هو ذو علاقة بهذه الحقيقة. المجرم يسعى جاهداً إلى إخفاء جريمته مهما كلفه ذلك من مال أو جهد، ويقوم بالقضاء على جميع المعالم والشواهد التي تدل عليها. ومع تقدم العلم والتطور الهائل والدقيق في التقنية أصبح إخفاء الحقيقة أمراً صعبا، لكن مع ذلك قد تختفي الحقيقة لبعض الوقت ويتأخر اكتشافها، أو قد تشوه الحقيقة وتستبدل بصورة مغايرة للناس ولعموم العالم وبشيء خلاف ما حدث.
منذ أن وجدت الصحافة والإعلام عرف أن الدور الذي تمارسه هذه الوسيلة هو السعي لكشف الحقيقة بكل الوسائل والطرق، وفي المجالات والميادين كافة، من سياسة واقتصاد وأوضاع اجتماعية وأخبار مشاهير، حتى أنه وجد في الغرب صحافة وصحافيون متخصصون في هذه المجالات يوجهون جهودهم وطاقاتهم للبحث عن هذه المواضيع التي قد تجذب القراء أو المشاهدين، وذلك رغبة في تبصيرهم بالحقائق، إضافة إلى استمتاعهم بها. وواجهت الصحافة والصحافيين صعاب جمة، منها ما هو تشريعي وتنظيمي يقيد عملهم، ويخضعهم لإجراءات معقدة تحول بينهم وبين كشف الحقيقة. وما مفهوم الرقيب إلا مثال حي على هذه الإجراءات، إذ بالرقيب تظن الجهات المعنية أنها حجبت الحقيقة وأخفت معالمها.
ومرت البشرية بممارسات بشعة استهدفت حجب المعلومات وتزويرها، وما جدار برلين إلا أحد الأمثلة التي أراد بها المعسكر الشرقي في وقته الحؤول دون معرفة ما يجري داخله من ممارسات وقمع وتنكيل بالناس، هذا الجدار أثبت أن من فكر فيه كان محدود التفكير، إذ إن الحقيقة كالشمس لا يمكن إخفاؤها بالغربال.
إن عدم سلامة الممارسات وعدم ثقة من يقوم بها تقوده إلى تزوير الواقع وإلباسه ثوباً آخر غير اللباس الذي هو عليه، وذلك بهدف تلميع الصورة حتى إن كان الوجه القبيح ظاهراً للعيان، ولذا يلجأ صاحب الممارسات السيئة إلى حيل عدة. وقد لاحظت خلال السنوات الماضية وخلال الأشهر الماضية شيئاً من هذه الحيل والممارسات، وما قتل الصحافيين أو منعهم من الاقتراب من أماكن معينة كما يحدث في العراق وأفغانستان من قبل الجيوش الغازية، إلا صورة من صور إخفاء حقيقة قتل الأبرياء وتدمير المنازل والمنشآت المدنية. عملية إخفاء الحقيقة تتكرر في كل يوم، وفي أنحاء العالم كافة. مع زخم الثورة في سورية وعمليات القتل والتعذيب والإهانات التي تقوم بها الأجهزة الأمنية ضد المتظاهرين، منع النظام وسائل الإعلام الأجنبية من تغطية الأحداث، وجعل من وسائل إعلامه مصدراً وحيداً وحصرياً يتحكم فيما يشاهده الناس، وما يمكن أن يسمعوه بشأن الأحداث، ومنع وسائل الإعلام الأجنبية كافة من الدخول إلى سورية وتغطية الأحداث، لكن وسائل التقنية الحديثة من كاميرات وجوالات حالت دونه ودون تحقيق هذا الهدف، إذ شاهد الناس صور حمزة وثامر وصور الجنود، وهم يعذبون المعتقل ويرقصون على جسمه، كما شاهد الناس في أنحاء العالم كافة الجنود وهم يركلون كبير السن الذي اعتقلوه بالقرب من مدينة حمص.
إزاء هذه الفظائع التي انكشفت للناس حاول النظام السوري زرع الشك في وسائل الإعلام الخارجية، حيث أصبح المتحدثون باسمه يدعون أن هذه المشاهد مصورة خارج سورية، وما يحدث في الداخل ليس إلا أعداد قليلة لا تزيد على عشرات الأفراد الذين يجتمعون هنا وهناك، ولا يمثلون إلا نسبة قليلة من الشعب السوري، أما عشرات الشهداء فهؤلاء قتلوا على أيدي المسلحين المندسين، لكن آخر اختراعات طمس الحقيقة، وبهدف التشكيك في وسائل الإعلام الخارجية، لجأ النظام إلى أسلوب استخباراتي، حيث اتصلت سيدة على قناة ''فرنسا 24'' ادعت أنها سفيرة سورية في فرنسا، وأنها استقالت من منصبها احتجاجاً على أعمال القمع التي يمارسها النظام، وبعد انتشار الخبر سارعت السفيرة ونفت الخبر، وأكدت أن أحداً انتحل شخصيتها، وما لبث أنصار النظام السوري أن جعلوا من هذه الحادثة مادة يتحدثون بها ويستشهدون بها على تواطؤ الإعلام الخارجي على سورية، وسعيه إلى تشويه نظامه.
سكرتير الرئيس اليمني مارس مثل هذا الدور وادعى أنه شاهد عيان، لكن أمره انكشف حيث عرف صوته، ومن ثم اعترف بخطئه الذي أقدم عليه بهدف الإيقاع بالوسيلة الإعلامية بهدف تشويه سمعتها وأنها لا تتحرى الدقة في المعلومات التي تبثها للمشاهدين، ومثل هذا الفعل قامت به مراسلة إحدى القنوات العربية المشهورة في القاهرة أثناء الثورة المصرية، حيث ادعت في إحدى الليالي أنه لا توجد مظاهرات في القاهرة، وأنها هادئة وكانت تصوب الكاميرا إلى جهة لا توجد فيها أي حركة، وذلك إمعاناً في تضليل المشاهدين في حين القنوات الأخرى كالجزيرة، وBBC العربية تنقل الحدث مباشرة من ميدان التحرير. ومهما حاولت الأنظمة حجب حقائق الواقع المرير لشعوبها ومجتمعاتها فإن رهانها سيفشل حتماً مع التقنية الفائقة الدقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي