حينما يكون التأمين مجرد ورقة!
من الأشياء التي يصعب تصورها هو أن تتحول وظيفة التأمين إلى مجرد كونه مستنداً يتم استخراجه لاستيفاء إجراء من الإجراءات الإدارية، لا أكثر ولا أقل. وهذا في الحقيقة أمر غير مقبول لأن في ذلك انحراف لوظيفة التأمين وتعطيل لها، لاسيما فيما يخص دوره الاقتصادي والاجتماعي.
هذه الإشكالية تبدو واضحة لدينا فيما يخص التأمين الإلزامي على مختلف أنواعه ومجالاته، سواء في التأمين الصحي، أو تأمين السفر، أو تأمين المقاولين، أو تأمين المسؤولية، لاسيما ما يتعلق منها بتأمين المركبات ضد المسؤولية.
ففي التأمين الصحي أصبح هاجس رب العمل هو الحصول على الإقامة لعامله غير السعودي، وذلك أكبر من مسألة كونه يفكر في إيجاد وثيقة تأمين قادرة على أن توفر رعاية صحية لائقة للعامل الذي ينشد استخراج إقامة له. ومصداقاً لما أقول، فقد ظهرت في السوق بعض الممارسات الخاطئة بالتواطؤ من بعض شركات التأمين ومن بعض أرباب الأعمال الذين قاموا بإبرام وثائق تأمين صحي وهمية لا توفر تغطية تأمينية صحية فعلية للعامل الذي يتم استقدامه، فهي مجرد ورقة كان الغرض منها التحايل على النظام، واستيفاء متطلبات الحصول على الإقامة. ووصل الأمر ببعض أرباب الأعمال الذين اقترفوا مثل هذه الممارسات غير النظامية الاشتراط على عمالهم بعدم مطالبة العاملين لديهم لهم بأية تكاليف تترتب على علاجهم أو علاج أفراد أُسرهم على حسابهم الخاص، وذلك لولا أن مجلس الضمان وقف وقفة جادة لمحاربة هذه الظاهر والقضاء عليها.
وفي تأمين السفر الإلزامي الذي تشترطه بعض الدول لاستخراج تأشيرة من سفارتها في المملكة، فإن الأمر تحول إلى مجرد مستند تقوم بإصداره شركات التأمين لمن يتقدم للحصول على تأشيرة دون أن يكون هناك أي دافع لشركة التأمين أو العميل لمعرفة محتوى الوثيقة، وميزاتها، وحقوق والتزامات الأطراف فيها، سوى ما يخص معلومة واحدة يحرص عليها الطرفان وهي أن تكون مقبولة لدى السفارة المعنية كشرط لإصدار التأشيرة.
وكذا الشأن بالنسبة لتأمين المقاولين، ففي عقود المناقصات التي يقومون بإبرامها مع الجهات الحكومية المختلفة يكون التأمين الهندسي أو تأمين مسؤولية المقاول شرطا أساسيا فيها، ومع ذلك فإنه لا يتم النظر إلى وثيقة تأمين مسؤولية المقاول لدى أغلب المقاولين إلا باعتبارها مستندا مكملاً للحصول على المناقصة أو لصرف مستحقات المقاول. وسرعان ما تكون هذه الوثيقة في طي النسيان ضمن أوراق ملف المناقصة، رغم أن هناك حقوقاً مالية قد يستحقها المقاول أو الجهة المستفيدة نتيجة تحقق التغطيات المنصوص عليها في هذه الوثيقة. والطريف في المسألة أن بعض الجهات لا تفطن لضرورة وجود هذه الوثيقة إلا بعد تسلّم المشروع من المقاول، فتُصر على طلبها كشرط لصرف مستحقات المقاول رغم أن فرضية حصول المخاطر التي كان ينبغي التأمين عليها أصبحت غير ممكنة بمجرد تسليم المشروع. ولذلك فالإصرار على تغطية هذه المخاطر بوثيقة التأمين بعد الانتهاء من المشروع لا يعدو عن كونه إجراء شكلي لصرف مستحقات المقاول ومستند لا قيمة فعلية له، ومع ذلك تقوم شركة التأمين بإصدار الوثيقة المطلوبة شاملة المخاطر التي لا يتصور حصولها على الرغم من أن من بدهيات التأمين هو التأمين على خطر محتمل الوقوع ومستقبلي، أما التأمين على خطر غير محتمل الوقوع فهي مسألة غريبة.
بالنسبة للتأمين الإلزامي على المركبات فإن الشغل الشاغل لصاحب المركبة هو استكمال المستندات الخاصة باستخراج وثيقة ملكية المركبة. فالمالك في الغالب لا يُعير اهتماماً للتغطيات التي توفرها الوثيقة ونطاقها وشروطها. كما أن مسألة تجديد التأمين من عدمه على المركبة بعد انتهاء التغطية في السنة الأولى هو خير دليل على ما أقول. وهكذا ومن خلال هذه الأمثلة يكون التأمين مجرد ورقة بلا قيمة أو معنى.