المعادلة الصعبة .. السياسة والاقتصاد
قبل عام تقريباً، كان هناك جدل حول إمكانية حدوث ركود اقتصادي آخر، لكن هذه التكهنات واحتمالاتها تبددت بعد تحسن النمو الاقتصادي العالمي بشكل كبير في بداية هذا العام. اليوم يعود الوضع من جديد إلى نقطة البداية، حيث تسيطر على الجميع مشاعر توجس وتخوف بشأن ما ستؤول إليه الأوضاع الاقتصادية على عدد من المحاور. في أوروبا، تعيد حالة التراجع الاقتصادي والقلق بشأن احتمالات إفلاس اليونان والآثار السلبية التي ستنتقل بسرعة إلى القطاع المالي، المخاوف بشأن عودة التراجع الاقتصادي مرة أخرى، فعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت في سبيل انتشال اليونان من خلال تقديم برامج تمويل لها من قبل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وعلى الرغم من التعهدات التي قدمتها اليونان باستعادة التوازن لأوضاعها المالية، إلا أن الأسواق لم تستجب لذلك بشكل إيجابي بعد، ما يعكس المخاوف الكبيرة من عدم ارتكاز هذه البرامج التمويلية إلى أهداف قابلة للتحقق. هذا أدى إلى قيام وكالات التصنيف الائتماني بتخفيض التصنيف الائتماني لليونان إلى أقل تصنيف سيادي في العالم، ما يعني ارتفاع تكاليف التمويل مرة أخرى، وصعوبة تحقيق أهداف برامجها التمويلية.
خلال العام الماضي وعندما بدأت مشكلة اليونان، كان هناك أمل أكبر في تجاوزها، لكن السياسة أحياناً شيء والاقتصاد شيء آخر، فقد كان من الصعب جداً على دول الاتحاد الأوروبي الكبرى، خصوصاً ألمانيا اتخاذ قرار سياسي يحمل مواطنيها تبعات السياسات غير المسؤولة لدول أخرى. والخوف من غضب الناخبين لم يساعد قادة هذه الدول على التفكير فعلياً فيما هو أبعد من ذلك، وبالتحديد في النتائج السلبية التي يمكن أن تتحملها دولهم ومواطنوهم في حالة لم يتم اتخاذ قرار في الوقت الملائم. فمن جانب، هناك ارتباط وثيق بين القطاع المصرفي في اليونان ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى، خصوصاً الدول الكبرى كألمانيا وفرنسا، حيث تقرض بنوك الأخيرتين مبالغ كبيرة للمصارف في اليونان. معنى ذلك أن عدم قدرة اليونان على سداد التزاماتها ستنتقل آثاره بسرعة إلى المصارف اليونانية ومن ثم إلى المصارف في أوروبا، وستصبح أزمة الديون السيادية أزمة في القطاع المصرفي الأوروبي. الجانب الآخر والمهم هو أن اليونان إحدى الدول الأعضاء في منطقة اليورو، وحالة الإفلاس في اليونان ستؤثر بالتأكيد في جميع منطقة اليورو، وفي الاتحاد النقدي بمجمله. التأخير في حل المشكلة لم يكن في مصلحة الأوروبيين حيث لم تتم معالجة المشكلة من جذورها.
ديون اليونان تتجاوز الآن ما نسبته 170 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، وهناك مشكلتان رئيستان تواجههما اليونان في هذا الإطار: الأولى عدم القدرة على سداد فوائد هذا الدين Insolvency، والأخرى مشكلة إمكانية استدامة هذا الدين Debt Sustainability. المشكلة الأولى يمكن أن يتم التعامل معها من خلال التمويل الخارجي، لكن استدامة الدين مشكلة أكبر، حيث يتطلب تخفيض الدين برنامج تقشفي حاد جداً لتجنب إصدار مزيد من الديون وتخفيضها عبر خطة متوسطة الأمد. الخطة التي وضعت لليونان طموحة جدا، لكنها واجهت معارضة سياسية كبيرة في الداخل أدت إلى الإطاحة بالحكومة، وتشكيل حكومة جديدة دخلت فيها المعارضة لتسهيل تمرير البرنامج التقشفي، وتم تمرير هذا البرنامج بالفعل. لكن كثيرا من المراقبين يرون أنه حتى مع تبني هذا البرنامج، فلن تستطيع اليونان الخروج من مشكلتها. السبب في ذلك، أن الخطة يمكن أن تعالج مشكلة عدم القدرة على سداد الفوائد، لكنها لا تتعامل مع المشكلة الأخرى المتعلقة باستدامة الدين العام والقدرة على سداده. هذا بالطبع يطرح موضوع إعادة هيكلة ديون اليونان كخيار صعب، رفضه عدد من الدول الأوروبية. وهنا تأتي مشكلة إعادة تدوير الديون حال استحقاقها، حيث إنه من دون تدوير هذه الديون ستصبح اليونان عاجزة عن الدفع، وسيتحمل دافع الضريبة النتائج السلبية لذلك. وهنا أصرت ألمانيا على التزام المصارف الدائنة بإعادة تدوير ديونها، وكان هذا الموضوع الأكثر تعقيداً وانتهى بالاتفاق على المشاركة الاختيارية من قبل المصارف في عملية التدوير. هذا بالطبع لا يحل المشكلة، لأنه من المحتمل بشكل كبير أن يشارك عدد قليل من المصارف في عملية التدوير، ومن ثم على دافعي الضرائب الأوروبيين تحمل ما تبقى من ذلك.
ليست أوروبا وحدها مصدر القلق بالنسبة للاقتصاد العالمي، لكن الولايات المتحدة أيضاً أصبحت محل قلق كبير جداً، فبلوغ الدين العام في الولايات المتحدة إلى ما يقارب قيمة الناتج المحلي الإجمالي، سيجعلها تواجه هي الأخرى موقفاً سياسياً صعباً بشأن موافقة الكونجرس على رفع السقف الأعلى للدين العام. هذا الموضوع أيضاً له نصيبه من تدخلات السياسة، حيث دخل على خط الصراع السياسي الدائر بين الجمهوريين والديمقراطيين على انتخابات الرئاسة القادمة، وهو ما يشكل سابقة ومغامرة كبيرة بموضوع حساس جداً كاحتمال إفلاس الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها. المفاوضات دائرة حالياً بين الجانبين برعاية الرئيس الأمريكي، حيث يطالب الجمهوريون بخفض كبير في الإنفاق العام في مقابل زيادة سقف الدين العام، الأمر الذي سيؤدي إلى خسارة الديمقراطيين دون شك انتخابات الرئاسة القادمة.
وأخيراً فإنه لا مناص من مواجهة الحقيقة: الاقتصاد يطالب بإصلاح ما قد تفسده السياسة، والسياسة في الوقت نفسه تفسد ما قد يصلحه الاقتصاد، ومع الأسف، فلا مجال لأي منهما للانفصال عن الآخر.