«حماس» تتبنى مواقف أكثر اعتدالاً وتهرب من طهران إلى أنقرة
عادت قضية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط لتكسر الجليد بين حركة ''حماس'' و''إسرائيل''، وذلك بعد مرور خمس سنوات على أسره من طرف ثلاث فصائل فلسطينية في قطاع غزة، وعاد معها الحديث عن قرب إتمام صفقة التبادل، وعن الوساطة الألمانية والفرنسية والمصرية، وتبادل الاتهامات التي تحمّل كل طرف مسؤولية إفشال وعدم إتمام الصفقة بين الطرفين. وتزامن ذلك مع أنباء عن ظهور بوادر أزمة تعتري علاقة ''حماس'' بالنظام السوري، نظراً لعلاقة الحركة المعروفة مع ''الإخوان المسلمين''، إضافة إلى توقف مسار المصالحة الفلسطينية، وظهور بوادر وساطة تركية بين حركي فتح وحماس للمضي قدمًا في طريق إتمام المصالحة.
ولا شك في أن المتغيرات التي تعصف بالبلدان العربية والمنطقة، في أيامنا هذه، سيكون لها أثر كبير في مختلف القوى واللاعبين السياسيين فيها، خاصة بعد تراجع فرص الحل العسكري، وتنامي الدور التركي، إضافة إلى تغير الدور المصري، الأمر الذي يشير إلى أن صفقة تبادل الأسرى باتت تمتلك فرصًا أكبر من أي وقت مضى في التوصل إلى اتفاق لإنجازها، وذلك في ظل تنامي الضغط الشعبي على حكومة بنيامين نتنياهو، في وقت تتحضر فيه لاستحقاق انتخابات برلمانية مقبلة، ما يدعو إلى التكهن بأنها على أبواب القبول بغالبية مطالب حركة حماس، المتمحورة حول الإفراج عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين مقابل الإفراج عن شاليط، لكن على الرغم من كل ذلك ومما تردد أخيرًا عن تفعيل مفاوضات صفقة تبادل الأسرى بجهود مصرية وألمانية وفرنسية، إلا أن المؤشرات بقرب إتمام صفقة التبادل لا تزال غامضة وغير كافية.
التوظيف الإسرائيلي
من الملاحظ أن حركة حماس نجحت طوال السنوات الخمس الماضية في المحافظة على الإبقاء على أسر الجندي الإسرائيلي، على الرغم من القدرات الكبيرة للجيش الإسرائيلي وللاستخبارات الإسرائيلية، ومن محاولات إسرائيل المتكررة تحريره عسكرياً، التي باءت جميعها بالفشل.
وتشترط ''حماس'' عقد صفقة تبادل للأسرى، تقضي بالإفراج عن شاليط مقابل الإفراج عن ألف أسير فلسطيني بينهم 450 من أصحاب الأحكام العالية، لكن عدم التوصل إلى إبرام صفقة التبادل يشكل إخفاقًا سياسيًا لحركة حماس، بالنظر إلى التكلفة الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني من جهة عدد القتلى والجرحى والتدمير الاقتصادي والسياسي الذي جاء كرد فعل عدواني على أسر الجندي الإسرائيلي، حيث اتخذت إسرائيل على مدى الأعوام الخمسة الماضية من استمرار أسر شاليط حجة تبرر فيها اعتداءاتها العسكرية العنيفة على قطاع غزة، وكان أشدها وأكثرها وحشية عملية ''الرصاص المصبوب'' في نهاية 2008، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 1400 فلسطيني، فضلاً عن الدمار الهائل التي خلفته.
ويعد قادة حركة حماس الثمن الباهظ لعملية أسر شاليط كجزء من ''ضريبة المقاومة والجهاد من أجل تحرير الأسرى''، ويرون أنه ''لن يكون في مقدور إسرائيل في نهاية المطاف سوى الاستجابة لمطالب صفقة التبادل''، وأنهم نجحوا في كسر المعايير التي طالما فرضتها إسرائيل في استمرار احتجاز آلاف الأسرى الفلسطينيين داخل سجونها ومعتقلاتها، لكن إسرائيل تريد الإبقاء على الخيار العسكري من أجل تحرير شاليط، بوصفه أولوية بالنسبة إليها، ولا تريد تقديم إنجاز لحركة حماس يفضي إلى الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين مقابل الجندي الإسرائيلي، مع أن الرغبة في إغلاق ملف شاليط، تحظى بإجماع فلسطيني ودولي، إلا أن إسرائيل ليست مستعدة بعد لدفع ثمن واستحقاقات إغلاق هذا الملف، على الرغم من فشل محاولاتها في استعادته بالقوة، حيث يرفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إطلاق سراح قسم كبير من الأسرى الفلسطينيين الذين تطالب ''حماس'' بالإفراج عنهم، مدعياً أن قسمًا منهم قد يعود إلى ممارسة النشاط المسلح والتخطيط لعمليات ضد أهداف إسرائيلية.
المصالحة الفلسطينية
يتطلع الفلسطينيون إلى عقد صفقة تبادل الأسرى بغية إفساح المجال أمام نجاح اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي وقع في الرابع من أيار (مايو) من هذا العام برعاية مصرية، وجاء بعد إخفاق سلسلة من المحاولات المتكررة بين الحركتين لإنهاء الانقسام، حيث أعلنت الحركتان على نحو مفاجئ التوصل إلى اتفاق ينص على تشكيل حكومة انتقالية، تضم شخصيات مستقلة، تمهيداً لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة خلال عام، والإشراف على إعادة إعمار قطاع غزة، الأمر الذي يبدو أنه سيبقى مستبعداً من دون حلّ قضية شاليط.
وهناك تعقيدات كثيرة تعتري ملف المصالحة الفلسطينية، التي توقفت عند نقطة تسمية رئيس الحكومة الفلسطينية المرتقب تأليفها، وظهر أن السبب الرئيس في تعطيل المضي قُدماً في تنفيذ الاتفاق، يعود إلى تمسك الرئيس الفلسطيني بترشيح سلام فياض لرئاسة الحكومة الفلسطينية التي جرى الاتفاق عليها، مقابل الرفض المطلق لحركة حماس لهذا الترشيح، لكن سرعان ما ظهرت الوساطة التركية، وجسدها إعلان وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، عن استعداد بلاده لتقديم أي دعم لضمان إتمام المصالحة بين الفلسطينيين. وأفضت الوساطة إلى قيام رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، بزيارة مفاجئة إلى تركيا، بالتوازي مع وجود الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، وذلك بعد إلغاء لقاء كان مقرّرًا بين الإثنين في القاهرة.
ويبدو أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس سعى لإتمام المصالحة مع ''حماس'' لتعزيز موقفه في أيلول (سبتمبر) المقبل لتحقيق انتزاع اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، في الوقت الذي ترفض فيه الإدارة الأمريكية هذا الاعتراف، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى ممارستها ضغوطًا كبيرة على الدول الغربية الحليفة لها لإفشال هذا المسعى الفلسطيني.
من جهتها، وافقت حركة حماس على المصالحة الفلسطينية تحت ضغط المتغيرات التي حملتها الانتفاضات والثورات العربية، التي لم تصب في مصلحتها، وبعد القرار المصري الذي اعتبر أن فلسطين تمثل قضية أمن قومي بالنسبة لمصر، بوصفها الدولة العربية الأقوى والأكبر، التي كان لها الفضل الأول في إنجاز اتفاق المصالحة، إضافة إلى قيامها بفتح معبر رفح، لكن الأهم هو أن موافقة حركة حماس على المصالحة جاءت بعد حركة الاحتجاج الشعبي التي تشهدها سورية، والتحسب من أثارها وتداعياتها على مقر الحركة وقادتها في دمشق. وتدرك حركة حماس تمامًا أن ملف المصالحة حركته المتغيرات العربية، كونها فرضت مواقف جديدة عليها وعلى السلطة في رام الله، إضافة إلى الحراك الشبابي المنادي بإسقاط الانقسام الفلسطيني، بما يعني إنهاء استبداد سلطة ''حماس'' في قطاع غزة وسلطة عباس في الضفة الغربية. وكان لا بد من أن تركب حركة حماس الموجة، وتشارك في فعاليات الحراك الفلسطيني، ووجهت دعوة لعباس لزيارة غزة وإنهاء ملف الانقسام. ومن جهتها، دخلت السلطة في رام الله سوق المزايدات، فوجه محمود عباس ما سماه مبادرة مضادة لزيارة قطاع غزة بشروطه. ومن ثم يمكن القول: إن اللغة ذاتها تحكمت في مواقف كل من مسؤولي حركتي فتح وحماس من دون مراعاة لمطالب الشعب الفلسطيني وحراكه.
أثر التغيرات العربية
تمثّل المتغيرات التي تحملها الثورات والحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية تحولات كبرى في التاريخ العربي المعاصر، كونها تسطّر مرحلة جديدة، بدأت بالتشكل منذ قيام الحركة الاحتجاجية في تونس، وتحولها إلى ثورة أسقطت واحدًا من أشد النظم الاستبدادية العربية، الذي جثم على صدور التوانسة 23 عاما. ثم أخذت تداعيات الحدث التونسي بالتفاعل سريعًا في أغلب البلدان العربية، فجاءت الثورة المصرية التي أسقطت النظام المصري الذي امتد إلى عقود طويلة من الظلم والاستبداد والمهانة، لتعلن تدشين هذه المرحلة الجديدة، التي ترتفع فيها الكلمة الفصل للثورات والحركات الاحتجاجية الشعبية، المعبّرة عن إصرار الشعوب العربية على نيل حريتها، وإقامة أنظمة ديمقراطية تلبي تطلعاتها. ولا شك في التطورات التي ستحدث في المنطقة على مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ستترك آثارها الإيجابية في القضية الفلسطينية، كونها ستسهم مع الزمن في تقديم فضاءات استراتيجية داعمة للشعب الفلسطيني، وقد تفضي إلى اختلال موازين القوى السائدة حالياً في المنطقة، وهو ما يسبب حالة قلق وارتباك إسرائيلي كبير.
وبالنظر إلى أهمية مصر وثقلها الجيوسياسي في المنطقة العربية، فإن أي تغيير فيها سيمس بشكل مباشر القضية الفلسطينية وإسرائيل، لذلك تحرص كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على الإبقاء على الأوضاع السابقة نفسها، التي تضمن السيطرة على المؤسسة العسكرية، واستمرار السياسة الخارجية المصرية نفسها، وبما يحقق الحفاظ على التوازنات والتعهدات والاتفاقات في المنطقة، ومنع أي تغييرات أخرى يمكنها أن تخرج الأمور عن نطاق السيطرة، وتعيد المنطقة إلى الوضع الذي كانت عليه قبل توقيع اتفاقيات كامب ديفيد.
غير أن حركة التغيير في مصر فتحت الباب أمام عدد من التأثيرات المهمة بالنسبة للوضع الفلسطيني، حيث بدأت مؤشرات على صعيد السياسة الخارجية المصرية تشير إلى بداية انزياح مهم أخذ طريقه في التشكل على مستوى دور مصر الإقليمي وتوجهات سياستها الخارجية، ولعل أهم ملامحه يطاول الموقف من إسرائيل ومن الحصار على قطاع غزة والعلاقة مع القوى والأطراف الفلسطينية. وفيما يخص حركة حماس، فقد بدا كأنها ستستفيد من زوال نظام مبارك، وتفك بعض مآزقها السياسية، وخصوصًا بعد تصاعد دور جماعة ''الإخوان المسلمين'' في مصر. وهناك من اعتبر أن مسار التحولات العربية سيؤمن انتعاشًا إقليميًّا، يقوي من سلطة حماس في قطاع غزة، لكن الأمور اتخذت مسارًا مختلفًا مع انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية في سورية واعتماد النظام السوري الحل القمعي والأمني ضدها، حيث شعر قادة ''حماس'' بعمق المأزق الذي ينتظرهم وينتظر حركتهم، إذ طالما اعتبروا العاصمة السورية بمنزلة القاعدة الإقليمية لقيادة الحركة، ولدعمها تحت يافطة المانعة والمقاومة، التي انهارت وتبين تهافتها بعد الدماء الغزيرة التي سالت في الشارع السوري، نتيجة قتل المحتجين والمتظاهرين السلميين من طرف أجهزة أمن النظام، الأمر الذي دفع قادة ''حماس'' إلى التفكير والبحث عن مكان آخر يؤمن لهم ما كان يوفره النظام السوري لهم. ولم يجدوا في طهران البديل المناسب، خصوصًا بعد ظهور تقارير تتحدث عن رفض خامنئي لطلب مشعل بنقل مقر حركته إلى طهران، ولعل زيارته الأخيرة إلى العاصمة التركية كانت بمنزلة رسالة الضد على الرفض الإيراني.
ويمكن القول إن تكامل الوضع المتغير في سورية، الذي يصب في غير صالح حركة حماس مع الرفض الإيراني، دفع رئيس المكتب السياسي لها إلى الهروب نحو الأمام، والاستنجاد بالدور التركي كي يساعد على تحقيق المصالحة مع حركة ''فتح'' وسلطة رام الله، وهو ما يدفع ''حماس'' نحو مواقف ''معتدلة'' وأكثر براغماتية.
ويبقى أنه في ظل الأوضاع المتغيرة والصعبة في المنطقة، فإنه لا بديل من التوافق وتوحيد الطاقات والإمكانيات، بغية تعزيز الصمود الفلسطيني وتنظيمه وفق ما تمليه المصلحة الوطنية، وأن تكون الحسابات السياسية على أساس دراسة المعطيات الدولية والإقليمية الراهنة وموازين القوى السائدة ومفاعيل الصراع مع العدو والتحديات الناجمة عنه.