المخرجات لـ «متطلبات التنمية» أم لـ «سوق العمل»!
خلال السنوات العشر الماضية ضيّقت سوق العمل الخناق على مؤسسات التعليم العالي، بأن جعلت كل بيت يبحث لابنه عن مقعد في الجامعة، ومن ثم وظيفة تؤمن له دخلا ثابتا يساعده على بناء أسرة والعيش بكرامة. ووجهت الأنظار في عدم مواءمة أو كفاءة الخريج إلى سوء المخرجات لضعف البرامج وتكرار التخصصات وانصراف الأستاذ لزيادة دخله... إلخ. ولم توضع اليد على الجراح الحقيقية التي سأناقش أحدها في هذا المقال. من الطبيعي أن التوجه للتعليم الجامعي ليس حكرا على أحد والكل له الحق في ذلك، إلا أن الراغب في ذلك لا بد أن يظهر قدرته على حصوله على هذا المقعد نظريا وعمليا، ذهنيا ومهاريا، وبالتالي يمكن أن يكون في الجامعة كما يمكن أن يكون في معهد أو أكاديمية مهنية تؤهله لبدء مشواره ''العالي'' بكل معنى الكلمة. وأيضا يمكن له أن يتعلم ليبدع ويترقى علميا من دون أن يكون عاملا في السوق. هذا يعني أن الطالب يتلقى أساس العلم والمعارف ويتعلم كيف يوفق بينها ليفهم كيف يعالج مسألة أو قضية، وعندما يتمكن من ذلك بالتدرج في دراسة عدة مواد تقوده لذلك، يصبح جاهزا لأن يبدأ حياته كيفما اختار. لا شك أننا في حاجة إلى مراجعة دائمة للمحتوى العلمي وتطويره بما يتوافق ومتطلبات التنمية وليس فقط سوق العمل.
لقد بدأت الدراسات العربية تأخذ مكانة جيدة في هذا المجال ''مجال تطوير الأعمال وخلق فرص للتنمية''، وذلك بعد أن أطلقت الإنترنت العنان للأجهزة المختلفة بنشر الأنظمة واللوائح والإحصائيات المحدثة، وللباحثين بنشر أبحاثهم والتمكين من قراءتها في أي وقت، وللجيل الجديد بالتعلم من الموروث والمنشور حديثا والمقاربة بينهما، منتجين بذلك إنتاجا فكريا يتبنى قضايا الساعة أولا بأول. هذا ما افتقدناه عبر العقود الطويلة الماضية، ولكن تحققت الآن مقولة ''الاستفادة المتبادلة''. في إحدى هذه الدراسات الجيدة الجديدة أوصى الباحث الدكتور عمر الهنداوي فيها بزيادة أعداد مدربي الرياضة للمعوقين في الأردن، حيث يكون لكل 30 معوقا مدرب رياضي واحد. الدراسة ركزت على جوانب مثل السعي لتنمية أو إيجاد فلسفة اجتماعية تهتم بتحبيب العلم والتعلم، ومحاولة تصحيح توجهات أفراد المجتمع بأن التعليم ليس شرطاً أن يكون وسيلة لكسب الرزق فقط. كما أشارت إلى أن من متطلبات التطوير: إنشاء مختبر خاص لاختبارات التعلم الحركي والحالات الخاصة، وإجراء دراسات مسحية لانتشار الإعاقات وتنوعها وحاجات المعوقين الرياضية والصحية. وفي توصيتها الرئيسة كان الباحث قد توصل إلى ضرورة توفير 900 ألف مدرب رياضي متخصص للمعوقين على مستوى العالم العربي فقط. وفي الختام أوصى بمد جسور التعاون بين الجهات الأكاديمية ومؤسسات المجتمع المدني للعمل على تأهيل أصحاب الحاجات الخاصة صحياً وحركياً للقيام بدور فاعل في المجتمع.
قد نقول هنا إن هذه سوق العمل، ولكن إيجاد متخصصين في هذا المجال يعني أننا خلقنا فرصا جديدة في تخصص واحد انسل من تخصص عام، فكيف بعدة تخصصات في مجال واحد، وكيف بعدة مجالات تكاد تصل إلى العشرة؟ هذا ما أرمي إليه في هذا المقال وسأحاول إيضاحه بشكل أو بآخر. إن مجرد وضع مجالات العمل تحت مجهر البحث العلمي سيوفر قائمة من الإبداعات لمسارات وظيفية جديدة تسير بسوق العمل نحو الأفضل وتتحقق بذلك ''التنمية'' المنشودة ولا تجعل سوق العمل مرمى المخرجات. إن ما حدث ويحدث في السوق ما هو إلا نتاج تجارب بدائية أو علمية وأبحاث ودراسات نتج عنها توليد خط إنتاجي في تطوير تقنية معينة، أو إعادة صياغة سياسة معينة، أو إجراء إداري أو أسلوب عمل حديث مهني وفني، وما إلى ذلك من الإبداعات الفكرية، الممكن تشغيل موارد بشرية للقيام بتقديم خدمة معينة. فمثلاً: انتشار الأمراض كأوبئة في العالم ليس محركا لسوق العمل فقط، فالطوعي ليس بسوق عمل والبحثي فكري أكثر منه عمليا مشاعا. ولكن لأن المسؤولين عن الصحة في كل قطر من العالم والمهتمين في التعليم العالي فكروا بصوت عال في كيفية تجنيب المجتمع هذا الخطر. فقد اتجهوا إلى تحليل الوضع ووجدوا أن مجرد إيجاد مجموعة تتخصص في حملات التوعية الصحية النموذجية وأخرى لكيفية ابتكار طريقة للتشخيص ومن ثم العلاج وأخرى تباشر تجربة صناعة لقاح... إلخ، ليعني تشغيل المئات من المتخصصين هنا وهناك ومساعدين لهم بمرتب أو بغير مرتب، إلى أن يكون الطاقم كله معني بمكافحة هذا الوباء. لنقس على ذلك في كل مجال، فهل كانت الاستجابة لحدث ضخا لمتكرر أم استحداثا لجديد، تتكون به سوق عمل من نوع جديد؟ من ناحية أخرى نحن لا نريد أن يكون كل الموظفين مطلوب منهم كتابة الخطابات وتصوير الخرائط وتوزيع البريد والرد على المكالمات وجمع البيانات ومراقبة المحال التجارية وصيانة الأجهزة... إلخ؟ نحن الآن نبحث عن التطوير المستمر والدائم يقود لتنمية مستدامة.
دعوتي لكل المنشغلين بهذا المجال سواء في مؤسسات التعليم العام أو العالي بجميع فروعه حتى البحثية منها، أو في المؤسسات المدنية الخدمية المختلفة ألا يجعلوا ''مواءمة المخرجات مع احتياجات سوق العمل'' عبارة كالعربة التي تقود الخيل في حين أن الطبيعي أن تقود الخيول العربة. الغاية هنا فتح مجالات أكثر وإيجاد فرص وظيفية لشبابنا لا حصر لها لتنمية مستدامة. ومع أن في الجعبة الكثير إلا أن ما قيل قد يفي بالغرض، والله المستعان.