مخاوف إيرانية من تبريد أمريكي للأزمات في الدول المجاورة
تزامن إعلان الرئيس الأفغاني حامد كرزاي عن وجود مفاوضات سريّة بين الولايات المتحدة وحركة ''طالبان'' مع قرار مجلس الأمن الدولي وضع تنظيم ''القاعدة'' وحركة ''طالبان'' على لائحتين منفصلتين للعقوبات، على أمل أن يشجع التمييز بين التنظيمين حركة طالبان على المضي في جهود المصالحة والتفاهم التي تجريها الولايات المتحدة في أفغانستان. وليس مصادفة أن يقوم وزير الدفاع الإيراني بزيارة تاريخية إلى أفغانستان، الأمر الذي يشير إلى مدى تحسب إيران من تأثير التفاهم ما بين الولايات المتحدة وطالبان عليها، في وقت تستعد فيه القوات الأفغانية لتسلم السيطرة على الأمن في العاصمة كابول من القوات التي يقودها حلف شمال الأطلسي، وتستعد فيه الولايات المتحدة للانسحاب من أفغانستان، حيث سارع، أحمد وحيدي، وزير الدفاع الإيراني إلى القول إن ''إيران تعد أمن أفغانستان من أمنها''.
وجاء الكشف الرسمي عن وجود مفاوضات بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في أعقاب الإعلان عن قتل القوات الأمريكية زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، بعد سنوات من الملاحقة والعمليات الاستخباراتية، الأمر الذي يعني بالنسبة لعديد من السياسيين الغربيين وضع نهاية للسبب الرئيس لغزو أفغانستان، الذي جرى بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001، وقام على حجة ملاحقة بن لادن والانتقام من تنظيم ''القاعدة'' ونظام طالبان، الذي كان يوفر الحماية له داخل الأراضي الأفغانية. لكن مصرع بن لادن ترك لغزاً محيراً لدى كثير من المتابعين والمراقبين في سياق الحرب المعلنة والخفية بين الولايات المتحدة وحلفائها وتنظيم القاعدة، حيث سيفضي رحيله عن المشهدين الأمني والسياسي إلى نتائج مختلفة، وإعادة ترتيب جملة من الأوراق، لدى مختلف اللاعبين الأساسيين في المنطقة.
الوساطة الألمانية
دأبت الولايات المتحدة على الادعاء أن المصالحة الوطنية في أفغانستان والحوار مع طالبان شأن يخص الحكومة الأفغانية، وكانت تنأى بنفسها عن الحوار في بعض الأحيان وترفض فكرة المصالحة في أحيان أخرى، فيما اعتادت حركة طالبان، من جهتها، على الإعلان عن رفض أي شكل من أشكال الحوار مع الحكومة الأفغانية ومع الولايات المتحدة إذا لم تتم الاستجابة لشروط رئيسة ثلاثة، تتمثل في خروج القوات الأمريكية والأطلسية وتغيير الدستور الأفغاني والإفراج عن المعتقلين من أفرادها في السجون الأمريكية. لكن ذلك لا يخفي أن الحوار مع طالبان جاء على خلفية النقاش الأمريكي والأطلسي الذي دار حول الحرب في أفغانستان، والبحث عن خطط وصفقات سياسية، يمكن عقدها مع شخصيات معتدلة أو مع قواعد وتيارات معادية في أفغانستان وباكستان، حيث حثّت الإدارة الأمريكية الرئيس الأفغاني حامد كرزاي، في أكثر من مناسبة، على إبرام صفقة تفاهم مع شخصيات من حركة طالبان، تصل إلى درجة تقاسم السلطة معها، إلى جانب دفعها بعض القادة الباكستانيين المحليين إلى عقد لقاءات مع قادة وشخصيات من ''طالبان'' باكستان. وفي العام الماضي، أعلن ديفيد بتريوس قائد القوات الدولية في أفغانستان أن قوات حلف شمال الأطلسي وفّرت ممراً آمناً لقادة كبار في حركة طالبان، للسفر (بأمان) إلى كابول، من أجل إجراء محادثات مباشرة مع الحكومة الأفغانية.
ويأتي الحوار مع طالبان منسجماً مع مسعى الإدارة الأمريكية لتنفيذ بدء انسحاب قواتها العسكرية من أفغانستان في تموز (يوليو) 2011، الذي من المتوقع أن يكتمل مع مطلع عام 2014، وبالتالي تريد ضمان بقاء غير مكلف في أفغانستان من خلال الإبقاء على قواعد عسكرية دائمة، وبما يقلل خسائرها في الأرواح والأموال، والتخفيف من تكاليف رحلة الإمداد الطويلة من الولايات المتحدة عبر باكستان أو روسيا ودول وسط آسيا. ولا يمكن تحقيق هذا المسعى من دون توافق أفغاني، عليها أن تجده قبل عام 2014، بوصفه الموعد الذي أقره مؤتمر كابول الدولي في تموز (يوليو) من العام الماضي كوعد نهائي لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان.
وهناك تسريبات صحافية عن توسط الحكومة الألمانية لعقد لقاءات حوارية، وتتحدث عن لقاء سري جرى في ألمانيا في نهاية أيار (مايو) الماضي بين ممثلين عن حركة طالبان ومسؤولين في الإدارة الأمريكية ووكالة الاستخبارات الأمريكية، وأنه لم يكُن اللقاء الأول بين الجانبين حيث جرى قبله عقد أكثر من لقاء. ويعود سبب الوساطة الألمانية بين الولايات المتحدة وطالبان إلى حرص الحكومة الألمانية على نجاح مؤتمر أفغانستان الثاني، الذي سينعقد في قصر بيترسبيرج بالقرب من مدينة بون، في الخامس من كانون الأول (ديسمبر) المقبل، إلى جانب تململ دول التحالف الأطلسي من حكومة كرزاي الضعيفة، بالفساد وبالفشل في استتباب الأوضاع في أفغانستان، الأمر الذي شكل عقبة كبيرة أمام هذه الدول في سحب قواتها من أفغانستان. ويشارك الألمان بنحو خمسة آلاف جندي في الحرب الدائرة هناك، تحت يافطة حلف شمال الأطلسي، لكن الحكومة الألمانية تريد وضع نهاية لهذه الحرب، لأن المشاركة العسكرية الألمانية فيها لا تنال تأييد غالبية الشعب الألماني، خصوصاً أن نتائجها عقيمة، بالرغم من مرور عشرة أعوام على بدء غزو أفغانستان.
ويريد الأمريكان والألمان إعادة دمج عناصر حركة طالبان في المجتمع الأفغاني، ضمن خطة وضعها المبعوث الأمريكي السابق لأفغانستان وباكستان، ريتشار هولبروك، الذي يرى أن ''ما يزيد على 70 في المائة من المواطنين الذين يقاتلون في صفوف طالبان ليسوا ملتزمين عقائدياً تجاه القاعدة وطالبان، بل هم يقاتلون بسبب تظلمات محلية أو أنهم ضللوا بالنسبة لأهداف التحالف وحضوره في أفغانستان، كما لم يجر إعداد برنامج جيد لدعوة هؤلاء المقاتلين للعودة إلى مجتمعهم''. والغاية التي يريد الأمريكيون والألمان تحقيقها هي أن تتخلى حركة طالبان عن قتال قواتهم والاعتراف بالحكومة الأفغانية، فيما تصر حركة طالبان على انسحاب القوات الأمريكية والإفراج عن معتقليها، وأن يجري نقل مطالبها إلى أصحاب القرار في الولايات المتحدة. وفي السياق نفسه، يتنبى المسؤولون البريطانيون التوجه نفسه، حيث حثوا الحكومة الأفغانية على بذل الجهد اللازم لإجراء حوار مع عناصر في حركة طالبان. ودعا وزير الخارجية البريطانية ديفيد ميليباند، في أكثر من مرة إلى تبني استراتيجية سياسية تقوم على المصالحة وإعادة التكامل، واعتبر أن القوة العسكرية لن تهزم وحدها طالبان وحلفاءها، وأن الطريق ''لجذب طالبان إلى دائرة السياسة والسلطة بعيداً عن ميدان القتال، هو السماح للحركة بإنشاء حزب سياسي، والمشاركة في الانتخابات، ضمن خطة الإدارة الأمريكية الجديدة للسير في أكثر من اتجاه؛ لإنهاء الصراع المتأجج مع مقاتلي الحركة''.
ويبدو أن الإعلان عن بدء حوار بين الولايات المتحدة وحركة طالبان جاء في وقت بات فيه ممكناً، بعد مقتل أسامة بن لادن في ''أبوت آباد'' بباكستان، وقد تتطور المحادثات السرية لتصبح علانية في حال حصول تقدم مهم، لذلك تستعجل ألمانيا تحقيق تفاهم أو تسوية سياسية ما بين الولايات المتحدة وطالبان، معتبرة أنها صارت ممكنة بعد مصرع بن لادن والضعف الذي اعترى تنظيم ''القاعدة''، إضافة إلى أن حركة طالبان ليست موالية لهذا التنظيم، بل العكس هو الصحيح، إذ كان تنظيم ''القاعدة'' على الدوام معتمداً على حماية طالبان له. وهناك من طالبان من يشعر بأنه تخلص من عبء ثقيل بعد مصرع أسامة بن لادن.
الدور الإيراني
لا شك في أن وصول الولايات المتحدة إلى تفاهم مع حركة طالبان والقوى الأفعانية الأخرى سيؤثر في الدور الإيراني في أفغانستان، حيث تعتبر إيران من أهم الخاسرين من جراء أي تفاهم بين الولايات المتحدة وطالبان، كونها اعتادت، خلال السنوات العشر الماضية، على تأزيم الأوضاع في الدول المجاورة لها، فعملت على إضعاف الاحتلال الأمريكي في أفغانستان، كونه يضعف من احتمالات التفرغ الأمريكي نحوها، بما يعني تخفيف الضغوط عليها بسبب برنامجها النووي المثير للجدل، والتقليل من فرص استنزافها عبر الحدود أو القيام بهجوم عليها.
وبالنظر إلى فشل الحرب الأمريكية والأطلسية في أفغانستان، بفعل الاستنزاف والخسائر التي تعرضت لها القوات الأجنبية الموجودة على الأرض الأفغانية والتكلفة الباهظة للحرب، فإن الإدارة الأمريكية الحالية اضطرت إلى التفاوض مع إيران بخصوص مجمل الوضع في أفغانستان، وأبدت الولايات المتحدة تفهمها للدور الذي تلعبه إيران في حل ما تسميه ''أزمة أفغانستان''، حيث أعلن ريتشارد هولبروك، في العام الماضي، أن بلاده لا تعترض إطلاقاً على أن تحضر إيران اجتماع مجموعة الاتصال الدولية الخاصة بأفغانستان، بحجة أن إيران، بحدودها الطويلة والمفتوحة تقريباً مع أفغانستان وبمشكلتها الكبيرة مع المخدرات، ''تملك دوراً في حل أزمة أفغانستان سلمياً''.
واستطاعت إيران - بمساعدة عوامل عديدة - تحويل الوجود العسكري الأمريكي على حدودها الغربية والشرقية، في العراق وأفغانستان، من حالة تهديد لأمنها إلى حالة ضعف لذلك الوجود. لكن تركيبة وعوامل الوضع الداخلي في أفغانستان لم تتح له ذلك النفوذ الذي يتمتع به في العراق. ومع ذلك تمكنت إيران من نسج علاقات مع قوى متعددة في داخل أفغانستان، حيث أفادت وثائق دبلوماسية أمريكية نشرها موقع ''ويكيليكس''، أن إيران قدمت دعماً لحركة طالبان. وفي إحدى الوثائق المسربة، والعائدة إلى تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2009، يشير مبعوث الخارجيّة الأمريكي إريك إيدلمان خلال لقائه الرئيس الأفغاني إلى دور إيران في دعم حركة طالبان، وإلى تقارير استخباراتية حول معاقل تدريب لطالبان في إيران، إضافة إلى الطرقات العديدة المعتمدة لتهريب الأسلحة وسواها بين إيران وأفغانستان. ولا يقتصر الدور الإيراني في أفغانستان، حسب وثائق ''ويكيليكس'' على دعم حركة طالبان، بل إن إيران تدرّس الآلاف من علماء الدين الشيعة الأفغان، ويحظون، عند عودتهم، بدعم مالي إيراني، من خلال تخصيص رواتب شهرية لهم. هناك نحو سبعة آلاف متخرج أفغاني في الجامعات الإيرانية.
ومعلوم أن التدخل العسكري الأمريكي السافر والمباشر في منطقة الشرق الأوسط، أطاح بنظامين، كانا من أشد الأنظمة عداء للنظام الإيراني، هما النظام العراقي السابق ونظام طالبان، وبالتالي قدمت الولايات المتحدة في عهد إدارة جورج بوش الابن، من حيث تدري - على الأغلب - أو لا تدري، خدمة كبيرة للنظام الإيراني، لا تقدر بثمن.
وبالرغم من أن حركة طالبان تعادي إيران عقائدياً، وتمتلك نفوذاً وسطوة مانعة بقوة للتيارات الموالية لإيران، إلا أن ذلك لم يمنع إيران من أن تتعامل معها، في سياق تعاملها مع كل التنظيمات الموجودة في أفغانستان، الرسمية والشعبية، والموالية للوجود الأمريكي والمناهضة له، لكن حجم وطريقة وأسلوب التعامل تختلف من منظمة لأخرى باختلاف الهدف من هذا التعامل. وقد دفع عداؤها لحركة طالبان إلى اتخاذ موقف غامض من الحوار الأمريكي في البداية، ثم أنهت ذلك الغموض بإعلان رفضها عودة طالبان إلى السلطة والدخول في مفاوضات مع الدول الغربية بهذا الخصوص، وهي تنظر إلى الحوار والتفاهم الأمريكي مع حركة طالبان بوصفه مقدمة لتقوية وتعزيز دور القوى والمنظمات المناهضة لها في أفغانستان.