رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الانتخابات التركية.. تفويض جديد لأردوغان وحزبه

أسفرت الانتخابات التشريعية التركية التي جرت يوم 12 حزيران (يونيو) الجاري عن فوز تاريخي لـ ''حزب العدالة والتنمية'' للمرة الثالثة على التوالي، حيث سبق أن فاز هذا الحزب بانتخابات 2007 وقبلها بانتخابات 2002، ولم يسبق لأي حزب تركي أن فاز لثلاث مرات متتالية بالانتخابات التشريعية في تاريخ تركيا الحديث. وبهذا الفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية، وحصوله على نصف عدد أصوات الناخبين الأتراك، ينال هذا الحزب تفويضاً شعبياً جديداً لقيادة تركيا في المرحلة المقبلة.
ويعد فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات مؤشراً على الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها رئيسه، ورئيس الوزراء الحالي، رجب طيب أردوغان. وهناك من ينظر إليها بوصفها استفتاء على أن أردوغان سيكون الرئيس المقبل لتركيا، والأهم هو أن هذا الفوز يدلّ على أن سياسات الحزب الذي يرأسه وتوجهاته، الداخلية والخارجية، حازت مجدداً على قبول ورضا غالبية الشعب التركي.

فوز غير مكتمل
على الرغم من أن حزب العدالة والتنمية قد حقق فوزاً كبيراً في الانتخابات التشريعية، وحصل على الغالبية المطلقة في البرلمان، التي تمكنه من تشكيل الحكومة المقبلة بمفرده، إلا هذا الفوز لم يكتمل، لأنه لم يتمكن من الحصول على غالبية الثلثين في البرلمان (367 مقعداً) التي كان يطمح إليها، وتُمِكّنه من تمرير أي تعديل دستوري دون الحاجة إلى الاستفتاء الشعبي أو اللجوء إلى تحالفات مع الأحزاب الأخرى، وخاصة تلك التي يطمح إليها، وتتعلق بتغيير الدستور التركي الحالي، وتعزيز صلاحيات الرئيس بغية الانتقال إلى نظام رئاسي في تركيا.
ولا تنحصر المسألة في عدم تمكن حزب العدالة والتنمية من تحقيق ما سعى إليه بقوة خلال حملته الانتخابية، ويتمثل في الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان التركي، أي 367 نائباً، بل ولم يستطع زيادة عدد نوابه ليبلغ العدد الضروري، وهو 330 مقعداً، كي يحوز على زمام المبادرة داخل البرلمان، ويمرّر أي تعديل دستوري فيه، حيث حصل الحزب على 326 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان التي تبلغ 550 مقعداً، متراجعاً بهذا عن عدد المقاعد التي كان يحوز عليها في البرلمان السابق، والتي كانت تبلغ 341 مقعداً، وبالتالي سيبقى الحزب مكبل اليدين حيال الإصلاحات والتغييرات التي ينوي القيام بها في الفترة البرلمانية المقبلة، على الرغم من خروجه منتصراً في الانتخابات، وتمكنه من رفع نسبة التأييد الشعبي له من 47 في المائة في عام 2007 إلى الـ 50 في المائة في عام 2011.
ويبدو أن رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، قد فهم الرسالة التي أرادت غالبية الشعب التركي تبليغها له ولحزبه، حين أقرّ في خطاب الفوز الذي ألقاها عقب صدور نتائج الانتخابات بأن ''الشعب أبلغنا رسالة بضرورة بناء الدستور الجديد من خلال التوافق والتفاوض. وسنناقش الدستور الجديد مع أحزاب المعارضة''. وانتهز الفرصة كي يحوّل فوز حزبه إلى نصر إقليمي لتركيا ولمحيطها الجغرافي وللشرق الأوسط، بوصفه ''عاملاً مساهماً في الاستقرار والرفاه والعدالة في منطقتنا وفي كل العالم''، معتبراً أنه ''بقدر ما انتصرت إسطنبول انتصرت سراييفو، وبقدر ما انتصرت أزمير انتصرت بيروت، وبقدر ما انتصرت أنقرة انتصرت دمشق، وبقدر ما انتصرت ديار بكر انتصرت رام الله ونابلس وجنين والضفة الغربية والقدس وغزة، وبقدر ما انتصرت تركيا انتصر الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وأوروبا''.

خريطة النتائج
تظهر نتائج الانتخابات التركية أن حزب العدالة والتنمية تمكن من حصد أصوات مهمة في محافظات ومدن كانت تعد بمثابة معاقل للقوى العلمانية، مثل أزمير وآيدن على ساحل بحر إيجة، وتفوق على خصومه في مدينة أنطاليا، التي تعتبر معقلاً تقليدياً لحزب الشعب الجمهوري، اليساري والعلماني. وتقدم حزب العدالة والتنمية في العاصمة التركية، أنقرة، التي كانت تعتبر معقلاً رمزياً للمؤسسة العسكرية التركية ومركز الثقل للبيروقراطية ولمؤسسات وأجهزة الدولة التركية. كما حصل على نسبة 33 في المائة من نسبة الأصوات في مدينة ديار بكر، ونال نسبة 32 في المائة من أصوات الناخبين في مدينة ميرسين، التي لم يحقق فيها أية مكاسب تذكر في الانتخابات السابقة.
في المقابل، جاء حزب الشعب الجمهوري في المرتبة الثانية في الانتخابات التركية، وحصل على نسبة 26 في المائة من أصوات الناخبين، رافعاً عدد مقاعده إلى 135 مقعداً، بينما كان له 111 نائباً في البرلمان السابق، لكن ذلك لم يمكنه من الحصول على المقاعد الكافية، التي تجعله يدعي القول بأنه عاد بقوة إلى الحياة السياسية التركية، خاصة بعد سلسلة التراجعات والإخفاقات التي مني بها في انتخابات الأعوام الماضية. وحافظ حزب الحركة القومية، اليميني المتشدد، الذي يتزعمه دولت باهشتلي، على نسبة الأصوات التي نالها في عام 2007، وكانت 14 في المائة، حيث نال على 13 في المائة، لكن عدد مقاعده تراجع إلى 54 مقعداً، بعدما كان له 71 مقعداً في البرلمان السابق، فيما نال المرشحون المستقلون، ومعظمهم من الأكراد المدعومين من طرف حزب ''الديمقراطية والسلام'' الكردي، نحو 6 في المائة من أصوات الناخبين، وحازوا 32 مقعداً، بعدما كانوا يمثلون 22 نائباً في البرلمان السابق. أما باقي الأحزاب الأخرى فلم يتجاوز أكبرها نسبة الواحد في المائة من أصوات الناخبين الأتراك.
ويلاحظ أن حزب العدالة والتنمية حصل على خمسة نواب من أصل أحد عشر نائباً في محافظة ديار بكر، لكن نسبة أصواته في المناطق الكردية، بشكل عام، تراجعت بما يقارب العشر نقاط عما كانت عليه في انتخابات عام 2007، الأمر الذي يترتب عليه هزيمة لسياسات حزب العدالة والتنمية بخصوص المسألة الكردية، ويتطلب منه البحث عن سبل وطرق جديدة لحلّ ديمقراطي للمسألة الكردية في تركيا، ولا شك في أن قادة الحزب سيقرأون جيداً معنى ارتفاع نسبة الأصوات التي حصل عليها المرشحون الأكراد، ونجاح معظم قادة ورموز الحركة الكردية في الوصول إلى مقاعد البرلمان التركي الجديد.
وتكمن أهمية الانتخابات التركية في أنها تمهد لوضع دستور جديد، يقطع نهائياً مع الدستور الحالي الذي وضعه العسكر، وتمهد كذلك للانتقال إلى نظام رئاسي على غرار النظام الرئاسي الفرنسي، ربما برئاسة رجب طيب أردوغان نفسه. وأوضحت نتائج الانتخابات بأن أردوغان ما زال شخصية سياسية في ذروة شعبيتها، ودشن بها ولايته الثالثة، بوصفه الزعيم الذي أسهم في تحويل وجهة تركيا وغيَّر وجهها، حيث نجح في إضافة أبعاد إقليمية ودولية للانتخابات، بعد نجاحه في تحجيم دور العسكر في الحياة السياسية التركية. وقد وعد أردوغان بأن أول عمل يقوم به البرلمان الجديد هو وضع دستور جديد، يحل محل الدستور الحالي الذي أشرف عليه العسكر الذين قاموا بانقلاب 1980. ويستند في ذلك إلى الإجماع في الأوساط السياسية والمدنية التركية على الحاجة إلى دستور جديد، يمكنه أن يحل مشكلة عدم التوازن بين الدولة والمجتمع، إضافة إلى البحث عن مخارج للمسألة الكردية، والأهم هو وضع دستور يزيد من مساحة الديمقراطية والحقوق والحريات لمختلف المكونات الاجتماعية والاثنية في تركيا.

تركيا والربيع العربي
على الصعيد الإقليمي، تكتسي نتائج الانتخابات التركية أهميتها من كونها فوّضت حزب العدالة والتنمية لقيادة تركيا في مرحلة وصلت فيها رياح التغيير العربية إلى الحدود الجنوبية لتركيا، الأمر الذي جعل رجب طيب أردوغان يعلن أن ''اهتمام تركيا بما يجري في سورية يختلف عن اهتمامها بما جرى في مصر أو تونس، لأن الوضع بالنسبة لسورية مختلف تماماً''، حيث تعتبر تركيا أن ما يجري في سورية مسألة تمسها تماماً، لأن ''سورية دولة مجاورة، وهناك حدود تمتد على مسافة 850 كليومتراً''.
ويرى المسؤولون الأتراك أن ما يجري في سورية يرقى إلى مصاف مسألة تركية داخلية، تتطلب تعاملاً مختلفاً، لذلك سعت الحكومة التركية منذ بداية الأحداث في سورية إلى اقتراح معادلة، تقول بإنجاز الإصلاح مع المحافظة على الاستقرار، وأن يقود الرئيس السوري بشار الأسد شخصياً الإصلاح في بلاده، وأوفدت رئيس استخباراتها ووزير خارجيتها إلى دمشق، إلى جانب الاتصالات العديدة التي أجرها أردوغان من الرئيس الأسد.
غير أن وقوف الأوساط المؤيدة لحزب ''العدالة والتنمية'' إلى جانب مطالب الحراك الاحتجاجي في سورية جعل القادة الأتراك يتخذون مواقف أكثر حزماً حيال الوضع فيها، وراحوا يتحدثون عن عواقب عدم التجاوب مع مطالب المحتجين، وأطلق أردوغان وأحمد داوود أوغلو تصريحات متصاعدة أزعجت المسؤولين السوريين، ودفعت وسائل الإعلام السورية إلى شن حملة على الخطاب والمواقف التركية.
ويرجع الاهتمام التركي بسورية إلى اعتبارات استراتيجية وأمنية واقتصادية، كونها شكلت نافذة تركيا على العالم العربي، حيث توطدت العلاقة بين البلدين، بشكل حوّل سورية من اعتبارها بلد معاد إلى بوابة تركيا العربية، فوقعت معها عام 2004 اتفاقية التجارة الحرة، فضلاً عن عشرات الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية والتجارية الأخرى. وتنامى الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط، بشكل أفضى إلى نسج شبكة من العلاقات والنفوذ في دول المشرق العربي، وإلى التوقيع على اتفاقيات اقتصادية وسياسية هامة معها، حيث أبرمت حكومة حزب العدالة اتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول العربية، وألغت تأشيرات الدخول مع سورية ولبنان والأردن، وتمكنت من تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع معظم بلدان المشرق العربي. وشكل كل ذلك نقطة تحول مفصلية في السياسة التركية حيال البلدان العربية، والأهم هو أن تركيا اعتبرت بمثابة الدولة النموذج في المنطقة العربية، المستند إلى علاقات جيدة وإيجابية مع محيطها العربي والإسلامي، إلى جانب نجاحاتها الملحوظة في ميادين التنمية والاقتصاد والديمقراطية وفي علاقة الدين بالدولة. كما اعتبرت تركيا دولة ناجحة في إدارة العلاقات الدولية، نظراً لمراعاة نظامها ومسؤوليها التوازن الدقيق بين قوة الأمر الواقع، وقوة الحق الأصيل، في ضوء موازين القوى التي تتحرك باستمرار ولا تعرف السكون أو الجمود. وفي ظل تنامي الدور الإقليمي لتركيا، اتجهت الأنظار مع رياح التغيير التي حملها ''الربيع العربي'' إليها، بوصفها نموذجاً ديمقراطياً ناجحاً، يدعمه اقتصاد مزدهر جداً، وصارت مصدر إلهام للبلدان العربية، بعد أن مارست دورها المتعاظم، كقوة صاعدة، وكلاعب إقليمي لا غنى عن دوره في كثير من أزمات المنطقة، فضلاً عن دورها كعنصر أساسي في حفظ أمن الإقليم واستقراره وسيادة دوله وحقوق شعوبه وكرامتها، الأمر الذي دفع بعض المفكرين العرب إلى الدعوة إلى التقاط اللحظة التركية في تاريخ الشرق الأوسط، والوقوف بعناية وتبصّر أمام المنوال أو التجربة التركية.
غير أن الثورات العربية شكلت تحدياً لسياسة تركيا الخارجية، التي تباين وتفاوت موقفها وردها على ما حصل في تونس وفي مصر وليبيا واليمن وسورية وسواها من الدول العربية. ولا شك في أن أردوغان يعي تماماً الأثر الكبير الذي سيتركه الموقف التركي حيال الثورات العربية على الموقع الإقليمي والدولي لتركيا في المرحلة المقبلة، حيث يكتسي موقفها أهمية كبيرة حيال الحراك الشعبي في سورية على وجه الخصوص.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي