حساسية «المواطن» وكوكايين «التأشيرة»
من المؤكد كما أشرت في المقال السابق أن هناك إرثا كبيرا من الثقافة الاقتصادية والمواقف والتوقعات التي عاشت وترعرعت في ظل الطفرات الاقتصادية التي مرت على المملكة خلال السنوات الـ 30 أو الـ 40 الأخيرة. ففي حين كانت الثقافة الاقتصادية السائدة خلال السنوات الأولى لتأسيس المملكة لا تتوقع الكثير من الحكومة، وكانت الوسيلة الأولى للعمل والإنتاج تعتمد إما على الجهد البدني في مجالات الزراعة أو البناء، أو في مجالات البيع والشراء، فقد اختلف الوضع كثيراً بعد سنوات الطفرة الاقتصادية. أصبح الناس يتوقعون الكثير من الحكومة، ولا يرون أن ما تقدمه الحكومة كاف. أصبح التعليم يجب أن تقدمه الحكومة، والصحة يجب أن تقدمها الحكومة، والمياه يجب أن توفرها الحكومة، والكهرباء يجب أن تقدمها الحكومة، والطرق يجب أن تعبدها الحكومة، والمطارات تبنيها الحكومة، والقطارات يجب أن توفرها وتشغلها الحكومة، والكثير مما لا يمكن حصره من المجالات التي يطالب الكثيرون من الحكومة القيام به.
ولله الحمد والمنة، فقد كانت الموارد المالية الكبيرة فرصة لبناء بنى تحتية كبيرة جداً. خطوات كبيرة جداً قطعناها في التعليم والصحة والخدمات العامة. لكن الواقع يقول أن لكل شيء قدرات محدودة، والحكومة كذلك قدراتها محدودة مهما كبرت ومهما زادت مواردها. فالحكومة لا يمكنها أن تقدم كل شيء، لعدة أسباب، ليس أولها وليس آخرها محدودية الموارد المتاحة لها، سواءً المادية والبشرية. ولكن الحكومة وإن استطاعت توفير كل الخدمات، فإنها لن تقدمها بالكفاءة المطلوبة، بل وسينتج عن ذلك سوء وكفاءة في توزيع الموارد الاقتصادية وتوظيفها، وهذا بالطبع سينعكس على النمو والرفاه الاقتصادي العام. لذلك، يجب أن نعلم ما يمكن بالضبط أن تقدمه الحكومة وما يجب أن تبتعد عنه وتتركه لقوى السوق المتمثلة في قوى العرض والطلب.
وفضعدا عن المهام الرئيسة للحكومة كالأمن والعدالة والدفاع، فإن مهمة الحكومة الرئيسة في الجانب الاقتصادي يجب أن ترتكز على جانبين رئيسيين: الأول التأكد من اتساق الحوافز الاقتصادية المختلفة التي تؤدي إلى كفاءة الاختيار بالنسبة للأفراد والمؤسسات، وبالتالي كفاءة التشغيل والنمو الاقتصادي. وهذا بالطبع يتحقق من خلال التشريعات القانونية التي تحكم وتنظم هذه الحوافز، لتضمن أن يحصل كل عنصر إنتاجي على ما يستحقه من عائد. والثاني أن تضمن الحكومة الجانب التنفيذي لهذه التشريعات من خلال ضمان الحقوق بين الأطراف المتعاقدة في كل عملية اقتصادية. هذا الجانب على رغم تبسيطه وتجريده في هذا التعريف يمثل أعقد وأصعب أعمال الحكومة، لأنه يتطلب موازنة كبيرة بين مصالح عناصر الإنتاج المختلفة (العمل، الأرض، رأس المال) لضمان ألا يستأثر عنصر بالعائد على حساب الآخر، وبالتالي يسبب ذلك خللاً كبيراً في معادلة الحوافز الاقتصادية.
وعوداً على المقارنة التي أشرت إليها في أول المقال بين ما كان السابقون يتوقعونه من الحكومة، وما أصبحنا نتوقعه نحن، نجد أن هناك فارقا كبيرا جداً، ليس على مستوى الأفراد فقط، ولكن على مستوى المؤسسات الخاصة أيضاً. فكثير من المؤسسات الخاصة أصبحت تتوقع أن تنفق الحكومة المزيد لكي تستطيع أن تعمل وتنمو أرباحها. أصبحت تتوقع أن تقوم الحكومة بتقديم القروض الميسرة لها، وأن تقدم الحكومة الخدمات العامة لها، وأن تقدم الحكومة الأراضي المجانية لها لإقامة مشاريعها الاستثمارية. أصبحت كذلك تتوقع أن تقوم الحكومة برعايتها من خلال إعطائها أولوية في المشتريات الحكومية، ومن خلال حماية منتجاتها من المنافسة الخارجية. أصبحت هذه المؤسسات تتوقع أن تقوم الحكومة بتزويدها بالوقود والطاقة بأسعار مدعومة. كما أصبحت تتوقع أن تقدم لها الحكومة المزيد من التأشيرات لاستقدام العمالة لكي تحقق أرباحا أكثر. ما النتيجة النهائية لذلك، قطاع أعمال معتمد بشكل كبير على إنفاق الحكومة، فإن زاد إنفاقها، نما هذا القطاع، وإن تراجع إنفاق الحكومة انكمش على نفسه، وبدأ يبحث عن الفرص في مكان آخر.
وفي هذا الإطار، أصبح البعض يسمي القطاع الخاص، بالقطاع العاق، لماذا؟ لأنه لم يستطع أن يرد الجميل للبلد الذي وفر له فرص النمو. لكنني لا أتفق مع هذه التسمية لأنها تحمل القطاع الخاص ما لا يحتمل، فاللوم كما أشرت في السابق على منظومة الحوافز الاقتصادية التي رسختها الحكومة ولم تستطع تغييرها خلال السنوات اللاحقة اعتماداً على تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية. فالقطاع الخاص لا يحتمل أن يوظف المواطن السعودي إذا كانت منظومة الحوافز الاقتصادية ومنطق الرشد الاقتصادي الذي يخاطب عقله الباطن يقول له إن العامل الأجنبي هو الحل الاقتصادي الملائم لتعظيم الثروة. هي معادلة بسيطة بالنسبة للقطاع الخاص، ويجب أن تكون كذلك بالنسبة للحكومة إذا أرادت أن تضع سياستها الاقتصادية. بمعنى آخر، إذا كان القطاع الخاص الوطني غير قادر على زيادة النمو الاقتصادي من خلال الابتكار والإبداع وخلق الوظائف، فليست هناك حاجة لتقديم الدعم لهذا القطاع ومعاملته معاملة متميزة عن الآخرين. لماذا إذاً تقدم الحكومة القروض الميسرة لدعم هذا القطاع؟ أو لماذا تقدم الحماية له؟ أو لماذا يتم توفير الخدمات له بتكلفة أقل من التكلفة الحقيقية؟
الكثير من المستثمرين في القطاع الخاص يتندرون كثيراً بالثقافة التي يحملها المواطن السعودي حول العمل والإنتاجية، ويتناسون أنهم أيضاً كانوا ضحية لثقافة الاعتماد على الحكومة، والاستفادة من ثغراتها التنظيمية. الكثير من رجال الأعمال السعوديين لم يبنوا ثرواتهم إلا على أساس ميزات احتكارية وفرتها لهم الأنظمة على مدى السنوات، أو بناءً على عقود حصرية، أو على منح ودعم حكومي وقروض ميسرة زراعية كانت أو صناعية. والأكثر من ذلك أنهم وقعوا ضحية لثقافة اقتصادية رسختها الأنظمة والتشريعات التي حاولت بناء اقتصاد يعتمد بشكل رئيس على العمالة الأجنبية، فأصبحت عقلية المستثمر تبدأ من مكتب العمل وتنتهي عند صراف الحكومة. أحد الأصدقاء كتب مقالاً الأسبوع الماضي يحكي معاناته مع بداية الاستثمار، وبدايتها كانت في الحصول على عقود مع الحكومة ونهايتها في مكتب العمل، الحل جاء طبعاً بالانتقال إلى دبي التي لم تمانع لا في هذا أو ذاك. هذا فقط يصور حالة واحدة بسيطة من ثقافة مستشرية في أوساط قطاع الأعمال، الذي لايزال يعاني من حساسية مزمنة اسمها (المواطن)، ومن إدمان من نوع جديد هو كوكايين (التأشيرة)، الذي لا أمل في علاجه إلا في مستشفى الأمل الحكومي. وللحديث بقية.