إيران .. محاولات لنشر الفوضى في المنطقة

يثير الدور الإيراني في العراق شكوكا كثيرة، داخل العراق وخارجه، تتعلق بأهداف ومطامح إيران في هذا البلد وفي جوارها الإقليمي، والتي لا تبتعد عن سعيها لنشر الفوضى في العراق، وفي المنطقة العربية بشكل عام، خصوصا وأنها تسعى لتصدير أزمات نظامها المتقادم، وذلك بعد ورود تقارير من داخل العاصمة الإيرانية، تتحدث عن احتمال تجدد الصدامات ما بين المناهضين لحكم الملالي وبين المدافعين عنه، إضافة إلى الصراع على السلطة داخل المؤسسة الحاكمة، والمتمثل في سعي مجموعة من معسكر المحافظين إلى عزل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، وتقويض صلاحياته.
وفيما تتسارع الأحداث والمتغيرات، بوتيرة عالية، في منطقة الشرق الأوسط، أخيرا، فإن التنافس يشتد بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، في نطاق صراع المصالح وبسط النفوذ، وتبادل المواقع والمكتسبات، والتحرك باتجاه سدّ الفراغ الحاصل، على مختلف المستويات، الجيواستراتيجية والأمنية والسياسية، الذي خلفه سقوط بعض الأنظمة العربية، وخصوصا نظام حسني مبارك، الأمر الذي يُذكر بما يشبه الوضع الذي ساد بُعيد سقوط النظامين الأفغاني والعراقي.

الدور الإقليمي
ينطلق الدور الإقليمي الإيراني من كون إيران تمثل دولة قومية محورية، لها طموحاتها وأهدافها وتطلعاتها؛ التي تصب في صالح ميزانها الجيواستراتيجي، ويدعم ذلك التكوين الهيكلي للدولة الإيرانية، ذو المحدد القومي الفارسي، حيث عاشت إيران منذ العهد الملكي على أهداف توسيع دائرة نفوذها الإقليمي، وتزايدت تلك الدائرة بعد الثورة الإيرانية، حيث أضيف لها بعد ديني، نهض على العمل من أجل تصدير نموذج ثورتها، ومحاولة خلق مجال نفوذ حيوي، إلى جانب محاولة لعب دور استراتيجي؛ يمكن بواسطته القيام بمساومة أو مقايضة مع الولايات المتحدة ومع سائر الدول الغربية.
وأراد النظام الإيراني تثبيت معادلة دولية، تقوم على لعب إيران دور الدولة المحورية، التي تتزعم المشرق الإسلامي تحت يافطة ذرائعية، فحواها الصراع مع إسرائيل ومجابهة الولايات المتحدة، وهي يافطة شعاراتية فارغة؛ لأن نظام الملالي سارع على الدوام إلى مهادنة المشاريع الأمريكية واستفاد منها، بل وساعد الإدارات الأمريكية على تنفيذها في أفغانستان وفي العراق، في حين أن الصراع المزعوم مع إسرائيل اكتسى معاني لفظية طنانة فقط.
وحاولت إيران البحث عن توافق مع الولايات المتحدة في الملفين العراقي والأفغاني، بهدف ضمان أمن نظامها وسلامة نخبتها الحاكمة، إلى جانب سعيها لإيجاد مجال حيوي لنفوذها الإقليمي، وغلّفت كل ذلك بشعارات ويافطات دينية إيديولوجية فارغة، ولم يكفّ الملالي وآيات الله فيها عن الاستخدام المكثف للألفاظ والتعابير الدينية، بوصفها ذرائع لبلوغ أهدافهم. كما سعت إيران، خلال العقود الثلاثة الماضية، إلى بناء شبكة معقدة مع العلاقات في المنطقة العربية، وتمكنت مع امتلاك أوراق عديدة في دول المشرق العربي، بدءا من العراق، حيث تمكنت من إيجاد قوى سياسية عراقية فاعلة على الأرض، مكونة من ميلشيات وأحزاب مذهبية، وهي متحالفة في معظمها مع الاحتلال الأمريكي. ودعمت حزب الله اللبناني، بل وأسهمت في تأسيسه وتقويته، ومدّه بالرجال وبالمال وبالسلاح. ودعمت كذلك حركة "حماس" في الأراضي الفلسطينية. كما دعمت مجموعات مذهبية في بلدان الخليج العربي، حيث دعمت بشكل كبير التمرد المسلح لجماعة الحوثيين في اليمن ومدّتهم بالأسلحة والمال، بل وأوزعت إليهم للتحرش بالحدود السعودية، واستخدمت جماعة الحوثيين في معركة ذات أبعاد إقليمية واضحة. وأخيرا ساند النظام الإيراني وبشكل علني الحراك الشعبي الاحتجاجي الذي جرى في البحرين، بينما وقف هذا النظام ضد الثورة السورية ذات الطابع السلمي، وأعلن رموزه عن دعمهم المطلق للنظام السوري في وجه أي حراك شعبي احتجاجي أو مطلبي في سورية.
ويدرك النظام الإيراني الحالي مدى الكره الذي تكنّه له قطاعات واسعة من الإيرانيين، خصوصا بعد تزوير الانتخابات الرئاسية الثانية لأحمدي نجاد وقمع الحركة الاحتجاجية. وما زال النظام يواجه معارضة شديدة، ليس من طرف القوى الإصلاحية فقط، بل من طرف جموع الإيرانيين المتضررين من قمع النظام ورجعيته، ومن تدخله في كل شاردة وواردة في حيواتهم، وتردي أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وانتشار الفقر والبطالة بين أوساط كتزايدة من الإيرانيين بسبب سياسات النظام، وخصوصا صرف مليارات الدولارات على البرنامج النووي. وعمل النظام الإيراني جاهدا من أجل تحويل أنظار الشعب الإيراني عن أزماته ومشاكله، وعلى إثارة الرعب لديه من تواجد القوات الأمريكية على الحدود الإيرانية الغربية والشرقية، ومن تواجد الأساطيل الحربية الأمريكية وسواها في الخليج، وحاول على الدوام امتصاص غضب الشارع واحتجاجه، خصوصا بعد امتداد موجات الثورات العربية.

#2#

أبعاد التدخل في العراق:
لا تخرج أبعاد الدور الإيراني في العراق بشكل خاص، وفي المنطقة العربية بشكل عام، عن حيثيات سعي القيادة الإيرانية للعيش على طموحاتها بلعب دور إقليمي فعّال، يزيد من أسهمها في صراعها من الولايات المتحدة ومع القوى الإقليمية الطامحة، وبشكل يقوي من نفوذها، ويحقق مصالحها أيضا، حتى وإن اقتضى ذلك نشر الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة، إضافة إلى استعدادها الدائم للمقايضة بأوراقها التي تملكها في الجوار الإقليمي كي تحصل على اعتراف دولي بدورها الإقليمي، وبأهمية مصالحها في المنطقة المحيطة بها.
وقد أصبح التدخل الإيراني في شؤون العراق الداخلية واضحا للجميع، وذلك بعد غزو العراق واحتلاله من طرف الولايات المتحدة، حيث أخذ أبعادا وأشكالا سافرة، تصب في خانة تحقيق أهداف إيران الاستراتيجية في سياق الصراع مع الولايات المتحدة، وتحقيق أطماعها في المنطقة.
وقد شجع سقوط النظام العراقي إيران على التدخل، حيث بات العراق، بعد الغزو الأمريكي، دولة من دون نظام سياسي مركزي، وصاحب ذلك شلل في إدارة البلد، إضافة إلى عدم قدرة قوات الاحتلال والحكومة المتعاونة معه على إدارته. وقد تضاربت وتقاطعت في الوقت نفسه مصالح إيران مع مصالح الولايات المتحدة في تثبيت الاستقرار في العراق، وفي نشر الفوضى فيه كذلك. وشجع إيران على التدخل وجود نزاع داخلي بين القوى التي ظهرت بعد سقوط نظام صدام حسين، وامتد النزاع إلى أغلب مناطق العراق، حيث تداخل مع النسيج الاجتماعي والمذهبي للعراق، وبدرجات متفاوتة ومتداخلة ومتشابكة ومعقّدة، وأسفر عن استقلال الإقليم الكردي في الشمال وتنازع واقتتال أهلي بين الجنوب والوسط.
ولم يكن نشر الفوضى حكرا على المحافظين الجدد في الولايات المتّحدة، من خلال ما عُرف باسم "نظرية الفوضى الخلاّقة"، بل سعت إيران أيضا إلى نشر الفوضى في العراق، وخاصة بعد الفشل الأمريكي في هذا البلد، حيث صار هدف إيران فيه، يتمحور في الإبقاء على الفوضى بل وتغذيتها، وزيادة سعيرها. وأرادت من ذلك دفع الولايات المتحدة إلى التفاوض معها بخصوص الثمن الذي ستناله مقابل المساعدة على تحقيق الاستقرار.
وكشفت دراسات وتقارير مراكز أبحاث أمريكية عديدة أبعاد وحجم الدور الإيراني في العراق، وتحدثت عن دور الحرس الثوري الإيراني في تأجيج النزاعات الطائفية في العراق. ورصدت كذلك التحركات الإيرانية قبيل الحرب وبعدها.
وأشارت إحدى الدراسات الأمريكية استنادا إلى وثائق ضبطت في العراق إلى دور المخابرات الإيرانية في العراق، التي قامت بفتح مكتب لها في النجف، أسمته "مكتب مساعدة الفقراء"، وقامت بتوزيع الأموال بشكل شهري على كل من يقبل الانضمام إلى ميليشيات معينة. وتمكنت المخابرات الإيرانية من تجنيد عشرات آلاف الأشخاص، انضم قسم منهم إلى الميليشيات، فيما بقي قسم آخر من أجل القيام بمهام استطلاع وإسناد وتجسس. والأخطر من ذلك هو وجود مناطق واسعة في العراق تخضع لسيطرة قوات أو "فيلق القدس" عبر المتعاونين معها، وتستخدم تلك القوات شبكة من المؤسسات الخيرية والشركات والواجهات الأخرى لممارسة أنشطتها في أنحاء من العراق.

الصراع على السلطة
يرسخ الدستور الإيراني ازدواجية السلطة في "الجمهورية الإسلامية"، مع إعطائه الكلمة الفصل للمؤسسة الدينية ممثلة بالولي الفقيه، ولا تخرج مساعي الرئيس أحمدي نجاد عن محاولات من سبقه من الرؤساء في زيادة صلاحياته، لكنه أثبت عدم مقدرته على مواجهة السلطة الدينية، خاصة أنه اندفع بشكل أقوى من قدراته ومؤهلاته وفي وقت بدأ نجمه في الأفول، خصوصا بعد الأزمة التي ضربت شرعيته على خلفية الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل التي جرت في حزيران (يونيو) من عام 2009، وما تبعها من إشكاليات أضرت بشكل كبير بمكانته كرئيس لإيران. وقد حاول نجاد خلال العامين الماضيين تقويض بعض صلاحيات البرلمان، وبإقالة الوزراء المقربين من خامنئي مثل وزير الخارجية منوشهر متكي، ووزير الاستخبارات حيدر مصلحي.
وتصاعد في الآونة الأخيرة الصراع على السلطة في إيران ما بين المرشد أو المرجع الأعلى علي خامنئي، والرئيس محمود أحمدي، حيث أمهل خامنئي نجاد بضعة أيام للتراجع عن قراره بعزل وزير الاستخبارات حيدر مصلحي، أو أن يقدم استقالته. وقد رضخ محمود أحمدي نجاد لضغوط خامنئي ومجموعة المحافظين الداعمة له، حيث تراجع عن قرار إقالة مصلحي، كما تراجع عن توليه حقيبة وزارة النفط، وعيّن محمد علي عبادي وزيرا للنفط بالإنابة.
وليس مستبعدا أن تجري عملية عزل أحمدي نجاد في سياق صراع القوى في الداخل الإيراني الآخذ في التفاعل المستمر، حيث تصاعدت تحركات مجموعة رجال الدين المحافظين لعزل أحمدي نجاد، بتهمة الخروج عن "الخمينية"، إضافة إلى تهم الفساد والتطرف بالقرار من دون العودة إلى البرلمان، بل وتهامة بأنه ليس مسلما بما يكفي! ومنذ اليوم الذي حلف فيه محمود أحمدي نجاد اليمين لدى تسلمه منصب الرئاسة مجددا، بدأ بعض الإيرانيين يراهنون فيما بينهم على مدة بقاء نجاد في ولايته الثانية.
ولم يشهد التاريخ لإيران محاولة لمجموعة من نواب البرلمان تهدد بعزل الرئيس، ويتهمونه بانتهاك القانون، وتجاوز سلطاته باتخاذ قرارات دون الرجوع إلى البرلمان. إضافة إلى أن نجاد أمر بتصدير كمية من النفط إلى الخارج (76.5 مليون برميل) وصلت قيمتها إلى تسعة مليارات دولار تقريبا، وسحب ما يقارب 600 مليون دولار من صندوق احتياطي النقد الأجنبي في إيران من دون موافقة البرلمان.
وتشكل ائتلاف مناهض لأحمدي نجاد داخل المؤسسة الدينية، يتكون من إسلاميين متشددين، ومجموعة الملالي المتشبثة بالثروة والنفوذ، الذين يرون أن نجاد يحاول دفع الملالي خارج السلطة، مع أنهم يمتلكون الاتصال المباشر مع الإمام الغائب، وبدأوا وبعض بحملة عزل أحمدي نجاد في حزيران (يونيو) الماضي، حيث ادعى رئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني أن البرلمان له الحق في تمرير القوانين دون موافقة الرئيس.
والحاصل، هو أن إيران، في أيامنا هذه، ما عادت تشكل مركز أو محور قوة، إقليميا ودوليا، بقدر ما باتت تشكل مركز صراع داخليا كبيرا على السلطة، ويحاول الملالي فيها الهروب بذلك الصراع الداخلي إلى الخارج، عبر دور إقليمي، ينهض على نشر الفوضى والأزمات في العالم المحيط، ولا يخرج سلوك النظام فيها عن سلوك أي نظام تسلطي وقمعي آخر في عالم اليوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي