ديناصورات بين سقوط بغداد وأحداث سورية
بعد سقوط بغداد بأيام كنت في دمشق عاصمة الدولة الأموية سابقاً لحضور مؤتمر عمداء كليات التربية في العالم العربي، الذي تستضيف مقره الأساس جامعة دمشق مشكورة على هذا الصنيع، وفي افتتاح المؤتمر كنت أتوقع أن يكون لسقوط عاصمة العباسيين سابقاً على أيدي الغزاة الأمريكان وقع على المتحدثين الرسميين، أو على أقل تقدير في نوع الكلمات التي يتفوهون بها ولو على سبيل الربط بين الحدث المؤلم والتربية التي كانت محور اجتماعنا، لكن المفاجأة أن لا شيء حدث من توقعاتي، إذ لم تكن هناك علاقة ود بين الرفاق، فرفاق بعث سورية يختلفون عن رفاق بعث العراق، وكما نعلم أن الحروب الإعلامية والسياسية كانت على أشدها بين الفريقين بفضل مؤسس، ومنظر حزب البعث وأبيه الروحي الرفيق ميشيل عفلق.
استهل مقدم الحفل كلامه بعبارة أيها الرفاق دون تحية أو سلام، وتكررت هذه العبارة على ألسنة المتحدثين، وكنت أظن - وكان ظني في غير محله - أن يكون هناك درس يمكن الاستفادة منه في مثل تلك الظروف وذلك الوقت الحرج، لكن يبدو أن البرمجة العقلية لعقول المتحدثين تعمقت بصورة حولتهم إلى ما يشبه الآلات. عادت إلى ذاكرتي هذه الصورة، وأنا أتابع الفضائيات وهي تتابع أحداث الثورة السورية، خاصة حين تستضيف بعض المحسوبين على النظام من إعلاميين أو أساتذة جامعات، فألفيت أن هناك علاقة تشابه، وربما تطابق بين طريقة تفكير هؤلاء الذين يظهرون على شاشات التلفزيون وبين أولئك النفر الذين حضروا حفل افتتاح اجتماع عمداء كليات التربية في العالم العربي. أوجه الشبه بين الفئتين - هذا إن كانوا فئتين - تتمثل في الانفصال عن الواقع والتنكر له، وكأن شيئاً لا يحدث على أرض الواقع سواء على الحدود كما كان يحدث في العراق ولا يزال من أحداث جسام، وما يحدث الآن في المدن السورية التي ظهر فيها الكبار والصغار، والرجال والنساء يطالبون بالحرية والكرامة الإنسانية التي افتقدوها خلال 40 عاماً من حكم الرفاق مع ما أضاعوه على الوطن من ثروة وجزء عزيز من سورية سلم للعدو الصهيوني مقابل منافع شخصية.
المتحدثون على الفضائيات ينكرون وجود مظاهرات، ويعتبرون ما يحدث بتدبير أجنبي يستهدف دولة "الممانعة" لإشغالها عن مواجهة العدو الصهيوني، أما آخر التقليعات فهو أن الغرب يسعى إلى إعادة استعمار سورية من جديد، لذا تجدهم يتعسفون الحقائق ويلوون أعناقها، فما يحدث من جماعات صغيرة، ومن جماعات ذات أجندات خارجية، ومن مندسين، وقطاع طرق، أما الابتكار الجديد فهو أنهم سلفيون. ومن وجهة نظر هؤلاء المتحدثين فإنه لا قتلى ولا معتقلين، ودليلهم أن الرئيس بشار أصدر أوامره المشددة بعدم إطلاق النار على المتظاهرين، أما القتلى، الذين تجاوز عددهم حتى الآن 1200، فإنهم قتلوا على أيدي المندسين داخل حشود المتظاهرين، كما أنه لا وجود لمعتقلين، والسجون السورية خالية تماماً. أما تعذيب الأطفال وقتلهم، كما حدث مع الطفل حمزة الخطيب، فهذا خطأ نتج عن قلة الخبرة لدى رجال الأمن، بل إن المتحدثين المحسوبين على النظام اتهموا الجماعات المندسة بفعل ذلك.
كلما أستمع إلى هؤلاء المتحدثين عبر الفضائيات أشفق عليهم، وأشعر بأني أستمع إلى أفراد يعودون إلى العصر الحجري، لأن أبسط المنطق والتحليل لا يتوافر لديهم. لماذا هؤلاء بهذا الوضع؟ هل هم مؤمنون بما يقولون ويعتقدون بصحته أم الخوف على مصالحهم، وربما الخوف على حياتهم، خاصة أنهم من المحسوبين على النظام هو السر في تعسف الأمور، وإنكار الواقع؟! ما من شك أن أجواء الإرهاب والخوف التي فرضت على الشعب السوري طوال هذه السنين كان لها دور في تشكيل عقول وشخصيات هؤلاء، واستلاب إرادتهم، بل جعلتهم يفكرون بالصورة التي يريدها النظام وتخدم مصالحه، وإلا كيف يمكن لهؤلاء الوقوف مع حاكم مستبد، والتنكر للأهل، وأبناء الشعب الذين خرجوا يطالبون بأقل حقوقهم؟
ما من شك أن في العالم أنظمة حكم هي أقرب ما تكون إلى منظمات سرية في قوانينها، وفي تدبير شؤون حياة مجتمعاتها، وفي القبضة البوليسية التي تفرضها على الناس، ولذا لا غرابة أن نرى ونسمع من يتحدث بطريقة أشبه ما تكون بالخرافات والخزعبلات التي لا يقبلها العقل السوي.
إنني كلما أستمع إلى هؤلاء أحس بأنني أمام ديناصورات بشرية افتقدت حواسها ومشاعرها، إضافة إلى موت عقولها وفقدانها أبسط مستويات التفكير.