حتى لا يغرد «نطاقات» خارج السرب
قدمت وزارة العمل مشروعها الجديد للسعودة، الذي يستهدف تحفيز عملية توظيف المواطن السعودي بتصنيف المؤسسات الخاصة إلى نطاقات مختلفة (خضراء، صفراء، وحمراء) تبعاً لدرجة التزامها بأهداف السعودة. وبالنسبة للمؤسسات التي تقع في النطاق الأخضر (التصنيف الأعلى)، ستكون هناك امتيازات لها بالمقارنة بالمؤسسات التي تقع في النطاق الأحمر (التصنيف الأدنى)، خصوصاً فيما يتعلق بمنح هذه الشركات مرونة أكثر في استقدام العمالة الأجنبية وتوظيفهم، وذلك على مبدأ (وداوها بالتي كانت هي الداء). جهد مشكور قامت به وزارة العمل، يعطي فكرة عن رغبتها في مواجهة قضية البطالة المستشرية بين أبناء الوطن، لكن يبقى نجاح كل مشروع مرتبطا بآلية تنفيذه، وإلا فإنه سيظل حبراً على ورق، وما أخشاه أكثر أن ينتهي هذا المشروع كأحد مشاريع الباوربوينت التي تعمل على مبدأ ''أسمع جعجعة ولا أرى طحناً''.
وهنا أورد بعض الملاحظات التي آمل أن يأخذها المسؤولون في وزارة العمل في الحسبان. أولاً أن المشروع المقترح من قبل وزارة العمل لم يسع إلى تغيير الفكرة المترسخة في ذهن رجل الأعمال، وهي أحقيته في الاستقدام، وهذه مشكلة في حد ذاتها؛ لأنه ما دامت هناك قناعة لدى رجل الأعمال بوجود بديل اقتصادي أفضل وأقل تكلفة وأكثر إنتاجية من المواطن، فسيكون نجاح رجل الأعمال والقطاع الخاص بصفة عامة في استيعاب وتوظيف والإبقاء على المواطن السعودي محدوداً جداً. لذلك، فإن هناك جهدا كبيرا يجب أن يُبذل لتغيير قناعات رجال الأعمال والقطاع الخاص. بالطبع؛ فإن هذا الأمر ليس بالسهل؛ لأن النموذج الذي تم وضعه وتصميمه في البداية لنشاط القطاع الخاص في المملكة، سواءً في الصناعة أو في قطاع الخدمات العام، قائم بشكل أساسي على الاعتماد على العمالة الأجنبية، بينما تظل الحكومة المكان الأفضل لتوظيف المواطن.. لماذا؟ لأن الحكومة لا تهتم بالإنتاجية كاهتمام القطاع الخاص به.
إذاً لدينا أكثر من مشكلة على وزارة العمل مواجهتها، الأولى مع القطاع الخاص، والثانية مع المواطن، والثالثة مع الحكومة. فالأولى تتطلب أن يدرك القطاع الخاص أن الظروف تغيرت، وأن المواطن قادر ولديه الرغبة في العمل في القطاع الخاص، وأن الاعتماد على العمالة الأجنبية استثناء من القاعدة الأساسية التي تتضمن أن العمل حق للمواطن قبل غيره. وقبول القطاع الخاص المواطن مرهون بتغيير القناعات والتوقعات المتوارثة لدى مسؤولي القطاع الخاص فيما يتعلق بإنتاجية العامل الأجنبي والمواطن. فالقناعات حول الإنتاجية العالية للعامل الأجنبي ترسخت عبر الزمن، في ظل أنظمة لا تنظم سوق العمل بالنسبة للأجنبي، وتترك لرب العمل الحرية في تشغيله في أي وقت يرغب وفي أي نشاط يريد، دون أن يوفر له أبسط الشروط التي تحفظ كرامة وسلامة الإنسان. لذلك، من المهم أن يعي رجل الأعمال أن الزمن تغير، وأن هناك حقوقا يجب أن تُراعى، وأن مفهوم رجل الأعمال للإنتاجية يجب ألا يُبنى على أساس الماضي، إنما على أساس مجتمع يحفظ لهذا العامل أبسط الحقوق، وأبسطها حرية الانتقال من عمل إلى آخر عندما يرغب في ذلك، وحرية السفر والعودة إلى وطنه، وتحديد العمل بساعات محددة، وإعطائه مكاناً ملائماً للسكن، ووسيلة ملائمة للانتقال، وتوفير العلاج اللازم له ولمرافقيه. وهنا فقط يمكن أن تكون المقارنة بين إنتاجية العامل الأجنبي والمواطن ملائمة.
المشكلة الثانية التي يجب أن تواجهها وزارة العمل هي مع المواطن نفسه، الذي كما يحق له المطالبة بوظيفة ملائمة، بأجر مناسب، فإنه أيضاً مطالب من قبل رب العمل بتحقيق أدنى درجات الإنتاجية التي تكفل له الاستمرار في العمل. وفي ردود الفعل على إطلاق برنامج ''نطاقات''، كثيراً ما قرأت من مطالبات لبعض رجال الأعمال بالمحافظة أيضاً على حقوقهم، بوضع مشابه لبرنامج نطاقات لمتابعة المواطن، من حيث إنتاجيته، وانتقاله من عمل إلى آخر، وتوصيات أرباب العمل حول خبرتهم في العمل معه. وتستطيع الوزارة تطوير هذه القاعدة بسهولة بالاعتماد على المواقع العالمية القائمة للشبكات المهنية، مثل لنكدن وغيرها، التي يمكن أن تؤسس بالتعاون معها قاعدة وطنية للمعلومات المهنية، توفر لصاحب العمل الفرصة للتعرف على الموظف من خلال بيئة شفافة لتبادل المعلومات. هذه القاعدة ستزيل الكثير من حالة الضبابية التي يعانيها أرباب العمل حول طالب العمل من المواطنين، ويمكن أن يكون للغرف التجارية فرصة للمبادرة بإنشائها؛ لأنها ستخدمهم بالدرجة الأولى.
والمشكلة الأخيرة والأكثر صعوبة تتعلق بالتعامل مع عملية التوظيف في الحكومة، فكما أن الإنتاجية الحالية للعامل الأجنبي تمثل مرجعاً يقوم على أساسه رب العمل بتقييم إنتاجية المواطن، وهي كما أشرت مقارنة غير عادلة، فإن المواطن أيضاً يستخدم الإنتاجية في القطاع الحكومي كمرجع لتقييم ما يجب أن تكون عليه إنتاجيته في القطاع الخاص. فلكل طالب عمل في القطاع الخاص أخ أو قريب أو والد يعملون في القطاع الحكومي، ويشكلون فيما مجمله محور الثقافة العامة للإنتاجية بالنسبة لهذا الشخص. وعندما يعمل في القطاع الخاص، فإنه يفاجأ بمقاييس أخرى للإنتاجية تختلف عما تعوده في مجتمعه، ما يجعله يتذمر من العمل في القطاع الخاص. إذاً، فإنه في ظل التغييرات الكبيرة التي قدمتها الدولة لسلم رواتب الموظفين في القطاع الحكومي، فإن هناك أيضاً ضرورة ماسة لإصلاح شامل لمفاهيم الإنتاجية والأمان الوظيفي في هذا القطاع، لتقترب من أو على الأقل تتناسب وإنتاجية القطاع الخاص. ومن دون أن تقوم وزارة العمل بمواجهة هذه العوامل الثلاثة مجتمعة، فسيظل نظام ''نطاقات'' يغرد خارج السرب.