رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


قمة دوفيل والربيع العربي .. توافق في قضايا وخلاف في أخرى

''الربيع العربي'' هو العنوان الأبرز الذي سيطر على جدول أعمال قمة مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى في العالم، التي انعقدت في 26 و27 من أيار (مايو) الماضي في منتجع مدينة دوفيل الفرنسية، حيث اعتبر المشاركون فيها أن ''الثورات العربية'' هي حدث تاريخي لا يقل أهمية عن سقوط جدار برلين؛ كونها أفضت إلى عمليات تحول كبرى في منطقة الشرق الأوسط، وما زالت عملية التحول مستمرة في أكثر من بلد عربي، حيث تظهر ليبيا - في أيامنا هذه - على خريطة شمال إفريقيا، بوصفها النقطة أو الحلقة الأكثر إشكالية وتعقيدا في مسار الثورات العربية، إضافة إلى تفاعلات الثورة في اليمن وفي سورية.

دعم الثورات
قررت القمة أن تدعم الثورات الشعبية العربية وتكافئها من خلال مدّها بمساعدات مالية فورية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، حيث وعدت الدول الثماني بتقديم 20 مليار دولار أمريكي كمساعدات لتونس ومصر، وأبقت على احتمال تدفق المزيد من الأموال لدعم الربيع العربي والديمقراطيات الجديدة التي تحملها رياح التغيير والاحتجاج الشعبية. وأعلن زعماء مجموعة الثماني في ختام قمتهم السنوية قيام شراكة مع دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط تربط المساعدات وائتمانات التنمية بمدى التقدم على مسار الإصلاحات السياسية والاقتصادية في المنطقة. وستكون معظم المساعدات في صورة قروض وليست منحا لتونس ومصر، اللتين اتخذتا موقع الصدارة في حركات الاحتجاج العربية، وأشار البيان الختامي للقمة إلى تأييد قادة مجموعة الثمانية القوي ''لطموحات الربيع العربي''، إضافة إلى تأييد طموحات الشعب الإيراني، وطالبوا ''بوقف اللجوء إلى القوة ضد المدنيين من قبل قوات النظام الليبي، وأيضا بوقف أي تحريض على القتال والعنف ضد المدنيين''. ودعوا ''القيادة السورية إلى الكف فورا عن اللجوء إلى القوة وإلى ترهيب الشعب السوري، وإلى الاستجابة لمطالبه المشروعة في مجال حرية التعبير والحقوق والتطلعات العالمية''. وهددوا بأنه ''إذا لم تستجب السلطات السورية لهذا النداء، فإننا سنفكر في إجراءات أخرى''. أما بخصوص الشأن اليمني، فقد أدان البيان الختامي للقمة ''اللجوء إلى العنف ردا على التظاهرات السلمية في جميع أنحاء اليمن''، وطالبوا ''بإلحاح الرئيس علي عبد الله صالح باحترام تعهداته في الحال، والعمل على مراعاة المطالب المشروعة للشعب اليمني''. كما طالبوا الفلسطينيين والإسرائيليين ''باستئناف المفاوضات بهدف التوصل إلى اتفاق إطار بشان جميع قضايا الوضع النهائي''، وأعرب قادة دول الثمانية عن دعمهم ''لرؤية السلام الإسرائيلي - الفلسطيني التي عبّر عنها الرئيس أوباما في خطابه الموجه إلى الشرق الأوسط في 19 من أيار (مايو) 2011''، معلنين أن ''لحظة استئناف عملية السلام قد حانت الآن''.

حيثيات التغير
يبدو أن التغيرات والتحولات التي حملتها حركات الاحتجاج والثورات العربية قد جعلت قادة الدول الصناعية الكبرى في العالم يغيرون من توجهاتهم وسياساتهم، لجهة انحيازهم إلى خيارات الشعوب العربية بعد عقود طويلة من انحيازهم وتواطؤهم مع الأنظمة الحاكمة، التي كانت تستمد سندها وقوتها من الصفقات السياسية والاقتصادية والأمنية التي كانت تبرمها مع الدول الأعضاء في مجموعة الثماني وسواها. ولعل التغير الحاصل في توجه هذه الدول يهدف بشكل أساسي إلى نفي الاتهام الدائم الذي يوجهه الشارع العربي إليها، أو على الأقل إلى بعضها، بأنها دول لا تزال تحنّ إلى عهود ما قبل الثورات العربية، وأنها كانت تفضل انتقالا وراثيا للسلطة، إضافة إلى كونها لا تزال تحمي العديد من الأنظمة العربية الجاثمة على صدور شعوبها بالقوة والإكراه، وتبذل ما في وسعها لإصلاحها من الداخل؛ بغية تفادي سقوطها بثورة شعبية غير خاضعة للتأثيرات والأجندات الأجنبية. ولا شك في أن الموقفين، الروسي والصيني، يعبران بشكل جليّ عن حرص شديد على تجنب أي تغيير في البلدان العربية التي ترتبط معهما بعلاقات اقتصادية وسياسية، لكنهما يعكسان اقتناعا زائفا، يفيد بأن الشعوب العربية غير جاهزة، بل غير مؤهلة للديمقراطية، بحجة أن الديمقراطية بعيدة عن الثقافة العربية والإسلامية، وهو أمر فنّدته الثورات العربية التواقة للديمقراطية وقيم الحداثة والمواطنة، والطامحة إلى العيش بكرامة وطمأنينة وسلام، مثلها مثل باقي شعوب العالم الأخرى.
وهناك من يعتبر أن تخصيص نحو 20 مليار دولار يعني أن الدول الكبرى قد اختارت الانحياز إلى تأييد الربيع العربي، مع أن هذا المبلغ هو أقل من توقعات القادة الجدد في كل من تونس ومصر؛ نظرا لحاجة بلديهما الماسة للوقوف على قدميهما، بعد أن نخرهما الفساد وضرب الخراب مختلف القطاعات الاقتصادية في عهد كل من بن علي ومبارك. ولا يخرج ذلك عن رغبة الدول الثمانية في ربط علاقاتها مع هاتين الدولتين بمقدار حماية علاقاتها التجارية وقواعدها الاستثمارية فيهما، ولا يتعلق واقع الأمر بما يشبه مشروع مارشال جديد على الدول العربية، ولا برغبة دول مجموعة الثمانية برعاية التحول الديمقراطي في البلدان العربية، مثلما فعلت الولايات المتحدة خلال عمليات إعادة الإعمار والبناء التي حدثت في دول أوروبا بعد انتهاء أوزار الحرب العالمية الثانية، ومع التحول الديمقراطي الذي حصل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ومعه الدول التي كانت تنتمي إلى ما كان يسمى ''المنظومة الاشتراكية''.
ولا شك في أن الدعم المادي والتأييد المعنوي لمجموعة الثمانية لم يأت تلقائيا أو عفويا، وخاصة من طرف قادة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا؛ لأنهم يمثلون دولا كبرى لها مصالح حيوية، استراتيجية واقتصادية، ولا يمثلون جمعيات خيرية. وهم حريصون على استمرار وصول موارد الطاقة والمواد الخام والمال الفائض من الدول العربية؛ لذلك فإن المواقف التي أبدوها حيال الحركات والاحتجاجات العربية جاءت نتيجة ضغط ما حملته الحركات، إضافة إلى ضغط قطاعات واسعة من الجماهير الأوروبية الغاضبة من تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها، وقسم منها مستعد للنزول إلى الشارع. وقد حصلت تحركات في بعض الدول الأوروبية، حيث أزاح الناخبون الإسبان ممثلي الحزب الحاكم في أغلب المقاطعات والمجالس المحلية الإسبانية، وذهبت أصواتهم إلى المرشحين المناهضين للحكومة، التي فرضت عليهم التقشف ومنعت عنهم الوظائف، وأوصلت سياساتها المطبقة نسبة البطالة بين صفوف العاملين منهم إلى أعلى نسبة في الدول الأوروبية، حيث وصلت إلى 21 في المائة في إسبانيا، وهي نسبة قياسية. كما أن وسائل الإعلام الأوروبية، المرئية والمكتوبة والمسموعة، أنتجت عددا كبيرا من المقالات والتحليلات في الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية، تحدثت وحللت بإسهاب ما حصل في مصر وتونس، وما زال يحصل وليبيا واليمن وسورية، وأشارت إلى إمكانية استلهام الثورات العربية وشعاراتها وأساليبها في مختلف دول العالم.
ويمكن القول إن الثورات العربية الناشئة تتحول وتتطور مع مرور الأيام، مع أنها بدأت كحركات احتجاجية، تطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية، وأخذت تتحول متفاعلة مع قطاعات واسعة من شعوب أوروبا إلى ثورات للعدالة الاجتماعية إلى جانب الحريات والديمقراطية. وهي في بعض جوانبها تطمح في أن تكون ثورات استقلال وتحرّر وطني حقيقي.

تغير الموقف الروسي
من أهم النتائج الرئيسة التي توصلت إليها القمة بالإجماع هو فقدان الرئيس الليبي معمر القذافي شرعيته، وذلك بعد التغير الذي حصل في الموقف الروسي حيال ما يحدث في ليبيا، وعبّر عن تطور مفاجئ في مسيرة التخلص من نظام الطاغية معمر القذافي، حيث أعلن الرئيس الروسي ديمتري مدفيف من منتجع دوفيل، الواقع شمال غرب فرنسا، عن ضرورة رحيل القذافي، و''أنّ العالم لم يعد يعتبره زعيم ليبيا''، علما أن روسيا كانت قد امتنعت عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذي أقرّ فرض منطقة حظر جوي على ليبيا.
وكانت روسيا من بين أشد الرافضين للدعوات المطالبة برحيل القذافي، وعليه جاء الموقف الروسي الجديد حاسما ومتماشيا مع بيان مجموعة الثمانية الختامي الذي أكّد ''أنّ القذافي فقد كل شرعية، ولا مستقبل له في ليبيا حرة ديمقراطية، وعليه أن يرحل''.
ويستند الموقف الروسي الجديد إلى عدم استطاعة روسيا مخالفة موقف الدول الغربية على الدوام، وإلى تطلعها إلى مستقبل يصون مصالحها في ليبيا الجديدة، الأمر الذي يفضي إلى عدم وجود دولة في العالم ذات أهمية تقف مع نظام القذافي، ويمكنها أن تسانده وتمانع الضربات الجوية الدولية التي تستهدف آخر معاقله في باب العزيزية في طرابلس. وهناك معلومات شبه مؤكدة، تفيد بأن القذافي ومن بقي من أفراد عائلته، باتوا يختبئون في المشافي، بوصفها أماكن لا يمكن للقصف الجوي الذي تقوم به طائرات التحالف الدولي المخوّلة بذلك بحسب قرارات الأمم المتحدة.
في المقابل، يزداد الدعم، المعنوي والمادي، الدولي للمجلس الوطني الانتقالي الليبي؛ إذ بعد زيارة السيناتور الأمريكي جون ماكين لطرابلس، أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أنه ينوي زيارة بنغازي مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في الوقت المناسب. كما تزايدت الانشقاقات في صفوف النظام الليبي، وكان آخر المنشقين هو السفير الليبي لدى الاتحاد الأوروبي الهادي حديبة ومعاونيه في السفارة الليبية لدى بلجيكا والاتحاد الأوروبي. إضافة إلى تزايد الخناق على القذافي وأنصاره، وتزايد الجرائم التي يرتكبها بحق الشعب الليبي، الأمر الذي يُعجل من اقتراب نهايته، ومن السعي الدولي لتقديمه إلى محكمة الجنايات الدولية على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها. والمؤكد أن القذافي لن يتمكن من الإفلات من العقاب، خاصة بعد إلقاء القبض، أخيرا، على مجرم الحرب الصربي، راتكو ملاديتش، الذي سيسلم للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بعد أن تمكن من الفرار والاختباء طوال 16 عاما. وستسلّمه الحكومة الصربية لارتكابه جرائم ضد الإنسانية بحق المدنيين العزل في البوسنة، وفي ذلك كله عبرة للقذافي وأضرابه من الطغاة في العالم.
من جهة أخرى، كانت قمة الثمانية مناسبة، استغلها عدد من القادة الغربيين للتعبير عن موقفهم من القضايا والأحداث الأخرى في العالم، حيث ناقشوا موضوعا مهما، هو موضوع السلامة النووية، وضرورة الإبلاغ السريع عن الحوادث النووية، وزيادة مسؤولية جميع البلدان التي تستخدم الطاقة النووية، وإجراء الاختبارات الإجهادية. وقد أجمع المشاركون في القمة على ضرورة اختيار المكان المناسب لبناء محطات الطاقة النووية وإنشاء أفضل درجة من الحماية ضد الحوادث. وبقي الموضوع المتعلق ببرنامج إيران النووي معلقا، ومن دون حلول، وتطرح حوله أسئلة، تتعلق بإمكانية أن يحمل هذا البرنامج طابعا عسكريا سريا، في وقت تنظر فيه مجموعة الثماني الكبار بقلق بالغ تجاه إيران، التي تتجاهل قرارات مجلس الأمن الدولي ومتطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويبدو أن قمة الثمانية أرادت في لقائها في دوفيل أن تخرج عن كونها مجرد لقاء لاستعراض العلاقات العامة وأخذ الصور التذكارية للقادة والتمتع بما تقدمه المنتجعات والفنادق الفخمة، إضافة إلى أن الرؤساء الحاضرين أرادوا على التوافق فيما يخص دعم الثورات العربية، بينما واقع الحال يبيّن عدم التوافق بين مواقف أقطاب القمة في قضايا عالمية أخرى عديدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي