وثائق التأمين وإذعان العميل
يرى كثيرٌ من المختصين في قانون التأمين أن عقد التأمين هو من عقود الإذعان. والإذعان يعني ببساطة الاختلال في موازين القوى والحقوق بين طرفي العقد، فهناك طرف قوي يُملي شروطه، وهناك طرف ضعيف ليس له خيار سوى أن يقبل بهذه الشروط.
والصفة الإذعانية لعقد التأمين تأتي من كون أن شركات التأمين هي شركات قوية ومحتكِرة لخدمة التأمين، وهي بذلك تملي شروطها على العملاء ولا تقبل من العميل بأن يناقشها في الأسعار أو في بعض الشروط المجحفة التي قد تتضمنها وثيقة التأمين أو عقد التأمين، حيث يتم إعدادها وصياغتها ووضع شروطها مسبقاً، ومن ثم تقوم الشركة بعرض العقد أو (الوثيقة) على العميل الذي لا يملك حق التعديل، فهو إما أن يقبل بها على علاّتها وإما يحجم عن القبول بها.
ومما زاد من هذا الاعتبار هو ضخامة أعمال شركات التأمين وتعدد أنشطتها وظهور التأمين الإلزامي، بحيث بادرت سلفاً هذه الشركات إلى وضع بنود وشروط ثابتة لوثائق التأمين لديها وأضحى التعامل مع شركات التأمين على هذا النحو.
والحقيقة فإن مصطلح إذعان لا ينصرف إلى عقد التأمين فحسب، وإنما إلى عقود كثيرة أخرى، فهناك عقود تُصنف قانوناً على أنها من عقود الإذعان. والأصل في العقود هو أن للأطراف حرية مناقشة بنود وشروط العقد على نحو يفضي إلى الوصول إلى اتفاق مشترك يتضمن في الغالب تنازلات تحقق توازنا مقبولاً لمصلحة الطرفين، مثل عقود البيع البسيطة أو الإيجار. فمحتوى هذين العقدين مثلاً يكون خاضعاً للمساومة والتفاوض، على اعتبار أن مراكز الأطراف من حيث القوة متساوية. وكل منهما بحاجة إلى ما يقدمه الآخر، فالمشتري أو المستأجر بحاجة إلى الحصول على السلعة أو السكن على وجه السرعة، والبائع أو المؤجر بحاجة إلى الحصول على الثمن أو الأجرة.
أما في عقود الإذعان فالأمر مختلف حيث غالباً ما ترد هذه العقود على سلع أو خدمات احتكارية ضرورية مثل العقود التي يبرمها المستهلك مع شركة الكهرباء أو المياه، حيث لا يملك هذا المشترك مناقشة أسعار الخدمات أو بنود العقد الأخرى، فإما أن يقبل بها وإما يحجم عن التعاقد، ولذلك فحينما يوقع العقد بهذه الصورة فهو يُعد طرفاً مذعناً.
وفي المملكة فالسائد لدينا بخصوص هذه القضية هو اتجاه وثائق التأمين نحو هذه النزعة، أي إلى الطبيعة الإذعانية، حيث كانت وثائق التأمين في السابق تتسم بالمرونة والقابلية للتعديل حسب رغبة العميل. إلا أنه مع تسارع العمل بالتأمين وتوسع السوق، وكذلك ارتباط شركات التأمين لدينا بعمليات إعادة التأمين، أدى ذلك كله إلى جمود وثائق التأمين، حيث يرفض كثير من شركات التأمين مبدأ مناقشة البنود التي تضمنتها وثائقها خوفاً من حدوث إشكاليات مع شركات إعادة التأمين. ومما تجدر ملاحظته بأن التشريعات التي سلمت بالصفة الإذعانية لعقد التأمين تبنت كثيراً من قواعد الحماية للمؤمن لهم، فعدم التكافؤ في مراكز القوى دفع بقوانين كثير من الدول إلى تعديل أو حتى عدم الاعتراف بالشروط التعسفية التي تتضمنها عقود التأمين تحقيقاً لمبدأ العدالة، وتجنباً لحدوث أضرار فاحشة للطرف الضعيف في عقد التأمين وهو بلا شك المؤمن له.
ولذلك فإن حماية المؤمن لهم من هذه الشروط تبدو ضرورية. وحسناً فعلت مؤسسة النقد باعتماد وثيقة موحدة للتأمين على المركبات وما فعله كذلك مجلس الضمان الصحي التعاوني من اعتماد وثيقة تأمين صحي موحدة، وذلك بعد أن كانت شركات التأمين تنفرد بوضع ما تشاء من شروط، ويبقى من المهم جداً تفعيل الرقابة على وثائق التأمين خوفاً من أن تدس شركات التأمين في وثائقها بعضاً من الشروط التعسفية، دون علم العميل بأن ما تقوم به الشركة هو مخالف للوائح والتعليمات.