المحتالون على النظام

ما وضع الشارع الشريعة الإسلامية، وبلغها للناس في القرآن والسنة إلا من أجل إقامة عبادة الله تعالى، وتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل. ولهذا يجب تطبيق الشريعة؛ لتتحقق غاية الشارع من وضعه لها، وأي احتيال على الشريعة لإبطال نص من نصوصها، فإنه يناقض مقصود الشارع، ويعود أثره سلبا على الفرد والمجتمع.
وما وضع المنظم النظام، وقننه في مواد نظامية، وأعلنه في وسائل الإعلام الرسمية، إلا من أجل تطبيقه، وتحقيق مصالح الناس، وحينما تزول الحاجة من هذا النظام، أو حين تكثر فيه الثغرات - لطبيعة النظام البشري - فإنه لا بد من تبديله أو تعديله؛ لأن النظام من صنع البشر، فهو عرضة للتبديل والتغيير، والزيادة والنقص، لكن التبديل والتغيير لا يكون إلا من واضعه؛ حتى لا يتجرأ عامة الناس على الأنظمة، ويستبيحونها بمحض الرغبات والمصالح والأهواء.
وما أكثر من يتحايل على النظام لتفريغه من مضمونه؛ من أجل مصلحة المحتال، أو مصلحة من يهمه أمره، ويعظم الخطب حين يتحايل على النظام من وضعت فيه الثقة لينتصب لمصالح الناس، وينظر إليهم بعين العدل والمساواة، فإذا به ينقض هذه الثقة، ويستغل كرسي المسؤولية في تمرير مصالحه الخاصة، ولو على حساب المصلحة العامة..!
لقد وضع النظام للمصلحة العامة، وبالتالي فإن أي محاولة لهدم مادة من مواده، أو الرجوع عليها بالنقض لغرض ما، فإنه يمهد لإزاحة هيبة النظام من نفوس الناس، وتكريس سياسة استغلال النفوذ.
فإذا كان النظام مثلا يلزم بشروط معينة للتعيين على وظيفة، فإنه لا يصح الالتفاف على هذه الشروط؛ لتقديم أشخاص، وتأخير آخرين، ولا سيما إذا كان التقديم لنماذج فاشلة، والتأخير لنماذج ناجحة. وإذا كان النظام قد وضع آلية لحفظ المال العام، فلا يصح استخدام النظام لكسر هذه الآلية، بل لا بد من توظيفه لخدمتها، والسهر لحمايتها.
ومثل من يحتال على النظام لخاصة نفسه ليهيئ له فرص الانقضاض عليه، كمثل من يمتثل لقرار منع رفع الأسعار، فيحتال على رفعها باحتكار السلع، حتى إذا غلت باعها بسعرها الذي فرضه قلة العرض.
ومثل من يحتال على النظام ليمرر مصالحه لينقض بشكله على مضمونه، كمثل الذي يحتال على الشريعة في منعها من الزنا؛ ليتوسل إليه بنكاح المتعة، فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة: ''أنكحيني نفسك بخمسة آلاف ريال'' ويشهد عليها رجلان من أصحابه، ليحللها له بشكل النكاح الفارغ من مضمونه.
فيا لله العجب من رجال ائتمنوا على تطبيق النظام، ليحقق ثمرته، فجوزوا لأنفسهم نسج الحيل لإسقاطه، وتجويز الحيل يناقض الهدف من وضعه مناقضة ظاهرة؛ لأن واضع النظام يسد الطريق إلى المفاسد بما يستطيع، والمحتال يفتح الطريق إليها بكل حيلة.
ولخبث المحتال، فقد جاءت الأحاديث بلعنه، كقوله - صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحلل والمحلل له) وقوله: (لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها) وقوله: (لعن الله الراشي والمرتشي) وسبب خبثه أنه يحتال على إسقاط ما أمر بحفظه وإقامته، ويجيز لنفسه ما لا يجيز لغيره، ويتظاهر بالمحافظة وهو يبطن النقض والمخالفة، وبعض الحيل النظامية أشد خطرا من الحيل الشرعية، والنظام الذي لا يخالف الشريعة، يكتسب قوته من قوة الشريعة التي أمرت بتنظيم مصالح الناس، ولهذا يجب وضع الأمناء على تطبيق النظام، أما ترك الحبل للمحتال؛ ليحتال على إسقاط ما لا يروق له، وفعل ما يروق، ولا سيما إذا كان المحتال مستغلا لنفوذه الوظيفي، فإن هذا يعني أن يسقط الواجبات في النظام، ويفعل الممنوعات متى سنحت له فرصة، وهذا يناقض مقصود النظام.
إن هناك قدرا مشتركا بين المحتال وإبليس اللعين، وهو أن كلا منهما يقوم بدور التدليس والتلبيس والتضليل، ويقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم، فكلاهما مخادع ملبس مدلس، كالذي يستحل المصالح العامة لشخصه باسم النظام، وكالذي يستحل الحرام باسم شريعة الإسلام، فالأول يفسد النظام العام، والثاني يفسد مقاصد الحلال والحرام، فالمحتال على النظام، يفسد بحسب احتياله، وكلما عظمت الحيلة عظمت خطيئته، فقد يحتال على النظام فيفترض فيه مانعا، وقد يحتال عليه فيخلع منه شرطا، وقد يحتال على البريء فيلبسه تهمة، وقد يحتال للمتهم فيلبسه ثوب البراءة، وهكذا في أسلوب لا يخلو من مكر ومخادعة، والله تعالى ذم أهل الخداع والمكر، ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وأخبر بأن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم، وسرائرهم لعلانيتهم، وأقوالهم لأفعالهم، والبعض قد لا يكون منافقا خالصا، ولكن فيه شعبة من النفاق، وقد تفوق الغرب على العرب، فلم يحتالوا كثيرا على أنظمتهم بالنقض، كما احتلنا عليها - ناهيك عمن لا يتورع عن المجاهرة بنقض النظام - والتحايل على النظام لتمرير مصالح معينة هو من شأن أهل المراوغة والخداع، بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر ممنوع يخفيه، ولهذا يقال للسراب: ''الخيدع''؛ لأنه يخدع من يراه، ويغره، وظاهره خلاف باطنه، ويقال للضب:''خادع'' وفي المثل: ''أخدع من ضب'' لمراوغته، وذكر العرب الضب لكثرته في بيئة جزيرة العرب الصحراوية، حيث تنعم الجزيرة بأعداد هائلة من هذا المخلوق، فما أكثر من يتصف بصفة الضب في خداعه.
تراه يخادع ليركب النظام فيمر من حافته..
ويخادع لينزل عن النظام فيقفز عن ظهره..
ويخادع في عمله ليحقق مآربه..
ويخادع في تعامله مع الغير ليحقق حاجة في نفسه..
لدينا الكثير من الضبان في صورة آدميين.. فينبغي ملاحقتهم في جحورهم لكف أذاهم.. لأنهم إن بقوا ليستمروا في المخادعة، فستنضوي الأخلاق، وتنتشر سياسة الغاب.
ومن أراد الاستزادة من صفات المحتالين فليرجع إلى ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي