صندوق النقد الدولي بحاجة إلى مدير يتجاوز المنطق السياسي

صندوق النقد الدولي بحاجة إلى مدير يتجاوز المنطق السياسي

كيف سقط صندوق النقد الدولي الجبار؟ قبل أكثر من عقد من الزمان، نشرت مجلة ''باري ماتش'' الفرنسية صورة للمدير الإداري للصندوق آنذاك، ميشيل كامديسوس، تحت عنوان: ''الفرنسي الأعظم قوة في العالم''. واليوم أصبح خليفته، دومينيك ستراوس كان، الذي ظهر مكبل اليدين متجهماً على صفحات الغلاف في كل مكان، الفرنسي الأكثر خزياً في العالم.
ومن بين النتائج غير المتوقعة لهذه الفضيحة الجنسية المثيرة التي شهدتها مدينة نيويورك والتي تورط فيها دومينيك ستراوس كان أن مسألة اختيار خليفة له تثير الآن مستوى غير مسبوق من الاهتمام الشعبي. والواقع أن هذه الفضيحة كشفت عن بعض المشاكل السياسية التي تحيط بحكم صندوق النقد الدولي، بل حتى بوجوده.
لقد حاول دومينيك ستراوس كان إعادة تشكيل صندوق النقد الدولي في هيئة طبيب للتمويل العالمي، بدلاً من شرطي يراقبه. ولكن عندما يتعلق الأمر بتخفيف أو حتى منع الأزمات المالية، فإن الأمر يحتاج إلى شرطي في بعض الأحيان. وفي هذه اللحظة، لا تزال تركيبة التجاوزات واضحة في القطاع المالي وفي التمويل العام في دعوات العديد من البلدان إلى فرض بعض التدابير الشرطية القاسية إلى حد ما.
بطبيعة الحال، لا يجوز لنا أن نختصر أي منظمة ببساطة في الشخص الذي يقودها، ولكن وجود شخص ضعيف أو مُسيَّس على رأسها قد يؤدي إلى ضرر عظيم. ومن المؤسف أن ما يقرب من نصف المديرين الإداريين السابقين لصندوق النقد الدولي كانوا إما ضعفاء أو مسيسين بشكل مفرط أو كلا الأمرين.
كان أول مديرَين إداريين لصندوق النقد الدولي، البلجيكي كاميل جوت والسويدي إيفار روث، من الشخصيات الضعيفة. بل إن الصندوق كاد يختفي في غياهب النسيان تماماً أثناء ولايتيهما.
وكان آخر مديرَين إداريين لصندوق النقد الدولي قبل دومينيك ستراوس كان ـ أحدهما ألماني والآخر إسباني ـ ضعيفين أيضا. فقد بدأ هورست كولر ولايته في عام 2000 مع بداية الألفية الجديدة بنغمة نشاز. فقد كان وزير دولة عظيم النفوذ لوزارة المالية في ألمانيا، قبل أن يتولى منصب رئيس جمعيات بنوك الادخار. وقد مارس المستشار الألماني جيرهارد شرودر آنذاك ضغوطاً شديدة لتعيين ألماني على رأس صندوق النقد الدولي، ولكن كولر كان دوماً بمثابة مرشح ثان غير محتمل. ثم استقال كولر في عام 2004 ليخوض الانتخابات كمرشح من قِبَل أنجيلا ميركل لمنصب رئيس الجمهورية الاتحادية الألمانية الشرفي إلى حد كبير، وهي الوظيفة التي قام بها بأسلوب تحكمه النزوات والأهواء إلى أن استقال منه بشكل مفاجئ.
وكان خليفة كولر، وهو رودريجو باتو، زعيماً لحزب يمين الوسط الإسباني، والذي لحقت به هزيمة غير متوقعة في الانتخابات العامة في عام 2004 على يد رئيس الوزراء الحالي خوسيه لويس رودريجيس ثاباتيرو. وعلى هذا فقد أرسِل إلى واشنطن على سبيل الترضية، ولم يبد سعادة كبيرة بوجوده هناك. ثم تضاءل نفوذ صندوق النقد الدولي إلى أن استقال في عام 2007 ''لأسباب شخصية''.
كما بدأ دومينيك ستراوس كان ولايته لصندوق النقد الدولي كسياسي في المنفى، بعد أن ظهر بوصفه المنافس الأكثر شراسة للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. ولا شك أن ساركوزي ومنظريه الاستراتيجيين تصوروا أن إرسال دومينيك ستراوس كان على صندوق النقد الدولي، الذي فقد أهميته وأصبح مهمشاً قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية، كان بمثابة انقلاب عبقري. بل وربما ذهبت حساباتهم إلى أن حياته الخاصة قد تؤدي إلى إثارة جلبة في دولة أكثر تكلفاً للاحتشام وأكثر شهوانية في الوقت نفسه من فرنسا. ولكن حالما عاد صندوق النقد الدولي إلى الظهور على السطح بعد 2008 بوصفه مؤسسة عالمية محورية، مع ظهور دومينيك ستراوس كان لإعادة توجيه الصندوق بقدر كبير من البراعة السياسية والاقتصادية، عاد من جديد ليبدو باعتباره تهديداً لمحاولة إعادة انتخاب ساركوزي.
وتضيف المشاركة القوية من جانب صندوق النقد الدولي في حل أزمة الديون السيادية في أوروبا عنصراً آخر من التعقيد السياسي. فقد اشتبه غير الأوروبيين في أن الأوروبيين يحصلون على صفقات محابية تحت إشراف سياسي فرنسي تحول إلى رجل اقتصاد كان راغباً في العودة إلى السياسة. كما خشي بعض الأوروبيين أن الصندوق منحاز في النزاع الأوروبي الداخلي المستقطب والذي يدور حول كيفية تقاسم التكاليف المترتبة على الأزمة المالية.
إن التعيينات الأخيرة لرئاسة صندوق النقد الدولي كانت جميعها مدفوعة بمساومة رفيعة المستوى بين حكومات أوروبية. والآن ظهرت الحاجة إلى الانفصال الكامل عن المنطق السياسي الفاقد لمصداقيته والذي يدفع مثل هذه القرارات.
إن الاتفاق على أن يكون المدير الإداري لصندوق النقد الدولي أوروبياً غربياً بالضرورة ليس مدوناً كتابة في أي مكان، وبالطبع ليس مدوناً في أي من بنود اتفاقية تأسيس الصندوق. بل إننا شهدنا دعماً قوياً لمرشح غير أوروبي، وهو رجل الاقتصاد المتميز ووزير الاقتصاد الأرجنتيني السابق روبرتو أليمان، في عام 1973.
ويُعَد تاريخ صندوق النقد الدولي أيضاً مرشداً لنا لنوع من الشخصيات التي يصبح إنتاجها أشد وضوحاً وقوة في واشنطن. والواقع أن أحداً من المديرين الإداريين الثلاثة الأكثر نفوذاً وقوة في تاريخ الصندوق لم يكن سياسياً أو وزيراً حكوميا.
فكان بير جاكوبسون، الخبير الاقتصادي السويدي الذي أخرج الصندوق من الظلمة والضبابية في خمسينيات القرن الـ 20، مسؤولاً في بنك التسويات الدولية في بازل. وبوصفه كبيراً لخبراء بنك التسويات الدولية في الثلاثينيات، فإن جاكوبسون كان يعرف كيف يستخدم التحليل الاقتصادي كأساس لاكتساب النفوذ. وكان جاك دو لاروسييه وميشيل كامديسوس من موظفي الخدمة المدنية في فرنسا، ولقد جمعا بين مستوى عال من الخبرة الفنية والإدارية وبين رؤية واضحة للكيفية التي ينبغي للاقتصاد العالمي أن يعمل بها.
واليوم تتلخص المشكلة الاستراتيجية العالمية العظمى في التكيف مع جغرافية اقتصادية وسياسية جديدة، حيث تحول ثِقَل الاقتصاد العالمي نحو الشرق والجنوب. ومن المغري أن نستنتج أن تعيين شخص يتمتع باتصالات قوية من دولة ذات اقتصاد ناشئ قد يكون فيه حل للمشكلة.
ولكن مثل هذه النتيجة من شأنها أن تشكل تكراراً للتفكير في الماضي، عندما كان الاحتياج الرئيس يتلخص في سمسرة النفوذ بين أوروبا وأمريكا. ولن يسفر تعيين رمز سياسي آسيوي إلا إلى تغيير أسماء اللاعبين؛ ولن يعيد إعادة اختراع اللعبة.إن صندوق النقد الدولي بحاجة إلى مدير إداري يتجاوز المنطق السياسي وقادر على إرساء الأسس الاقتصادية اللازمة لبناء نظام عالمي جديد. ولابد أن يكون المدير القادم شرقياً وليس غربيا، ورجل اقتصاد وليس سياسيا، وشخصاً يتمتع ببصيرة وليس خبيراً تكتيكيا.

أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان: ''خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة''.
خاص بـ ''الاقتصادية''
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة