رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


فرص جديدة للباحثين عن الريع

قسَّم آدم سميث الدخل إلى ثلاثة أنواع رئيسة: الأول الربح، والثاني الأجر، والثالث الريع. ما يميز الربح أن المستثمر يتحمل المخاطر أملا في الحصول على دخل غير مؤكد وغير مضمون. الأجر يمثل رسما محددا لقاء خدمة معينة تحدد قيمتها بخصمها بواسطة آلية السوق لعدم احتوائها على المخاطر التي يتضمنها الاستثمار؛ ولذلك ترى عادة أن الأجر هو أحد أجزاء قيمة الاستثمار، وبالتالي أقل منه (الأجور تعتمد على الإنتاجية التي بدورها تعتمد على رأس المال المستثمر). الريع Rent من ناحية أخرى يعرف بأنه استقطاع قيمة دون عوض من الآخرين ودون أي إضافة إنتاجية، عن طريق الحصول على حق التحكم في أرض أو مورد طبيعي، أو بواسطة الاستفادة من تشريع مقيد للدخول إلى أسواق أو قطاعات معينة.
والبحث عن الريع Rent Seeking هو محاولة أفراد أو جماعات الحصول على منافع ريعية من خلال آلية وضع السياسات، سواء بالسعي للحصول على إعانة مالية لمنتج أو خدمة معينة، أو بفرض تشريعات خاصة تؤثر على المنافسين في السوق. على سبيل المثال، قد يعمد أصحاب مهنة معينة كالمحاسبين القانونيين إلى وضع مزيد من القوانين والعراقيل التي تقيد الدخول إلى نشاط المحاسبة القانونية؛ مما يمكنهم من فرض رسوم أعلى مما يمكنهم أن يحصلوا عليه ويمكنهم من الاستمرار في نشاطهم. بمعنى آخر، لو كان المحاسب القانوني يفرض 100 ألف ريال لقاء عملية معينة، ولكن بسبب تقييد حرية الدخول إلى قطاع المحاسبة القانونية، فإنه الآن يحصل على 150 ألف ريال، فإن الزيادة التي حصل عليها تعد ريعا ولا تعد ربحا؛ لأنها ليست انعكاسا لعملية إنتاجية إضافية.
ومظاهر الريع كثيرة ومتعددة، وتكرر دائما في كل اقتصاد، بغض النظر عن شكل النظام الاقتصادي أو السياسي في كل بلد. ولكن الأنشطة الريعية، أو عملية البحث عن الريع Rent seeking تزداد بشكل مطرد أولا مع زيادة تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي، سواء من خلال التشريعات المنظمة لأنشطة قطاعات اقتصادية معينة التي أشرت إليها سابقا، وثانيا من خلال زيادة الإنفاق الحكومي. كذلك يختلف حجم الأنشطة الريعية باختلاف درجة الفساد في كل اقتصاد، فكلما ازدادت درجة الفساد، كان ذلك مترافقا مع المزيد من الأنشطة التي تستهدف الحصول على الريع، من خلال تشريعات أو تنظيمات مقيدة للأسواق. وزيادة الأنشطة الريعية أيضا ترتبط بكفاءة الحكومة في إدارة مواردها وفي وضع سياساتها الاقتصادية والتشريعية، حيث لا تؤدي إلى استفادة طرف من المجتمع على حساب طرف آخر، بما يؤدي إلى تركز الثروة في أيدي طبقات اجتماعية محددة.
أحد أكثر مظاهر الأنشطة الريعية وضوحا في المملكة هو تملك الأرض، حيث تعد مثالا صارخا على كيفية استفادة فئة محدودة من الأفراد من خلال تسخير قوى التشريع لتسهيل حصولها على حق امتلاك الأرض، سواء كانت أرض سكنية أو صناعية أو تجارية، وفي الوقت نفسه الاحتفاظ بها سنين طويلة، دون أن ينطوي ذلك على تكلفة على مالك الأرض. مثال آخر، هو التشريعات المقيدة لبدء أنشطة اقتصادية معينة كفتح مستشفى أو مركز صحي، أو تأسيس شركة أجرة (ليموزين)، أو غيرها من الأنشطة الاقتصادية الأخرى. فتقييد الدخول لهذه الأنشطة، أتاح لكثير من ممارسيها فرصة التربح والثراء على حساب آخرين دون أن يكون هناك مبرر قانوني أو أخلاقي أو اقتصادي لعملية تقييد هذا النشاط، حتى أصبحت قيمة الرخصة لأحد هذه الأنشطة سلعة تباع وتشترى في الأسواق.
لا يعني ذلك أن تقييد الدخول إلى أنشطة معينة من خلال وضع اشتراطات تضمن الكفاءة في الخدمة المقدمة هو أمر سيئ في حد ذاته. ولكن منع الدخول إلى أنشطة معينة بالكامل هو الأمر غير المرغوب فيه؛ لأنه يؤدي إلى نتائج سلبية على الاقتصاد. من هذه النتائج السلبية اختلال السوق، ووضع آلية تحديد السعر في يد فئة معينة من التجار. ومن هذه النتائج أيضا تردي جودة الخدمة المقدمة لعدم وجود المنافسين الذين يتنافسون على تقديم الخدمة، ومن النتائج غير الإيجابية اختلال موازين القوى الاجتماعية بجعل المجتمع رهينة لتصرفات فئة قليلة منه؛ مما يؤدي إلى نتائج كالتي نعانيها حاليا في قطاع الإسكان.
لقد دأبت الدولة على إجراء إصلاح شامل للكثير من الجوانب المتعلقة بالمواطن، لكن مع هذه الجهود الكبيرة والاستثمارات الضخمة التي وضعتها الدولة لإصلاح الأجور، وتوفير الإسكان، وإصلاح قطاع الصحة، وغيرها من الإصلاحات التاريخية التي قدمته الدولة، ستظهر الكثير من الفرص للباحثين عن الريع، كملاك الأراضي البيضاء، ومحتكري الوكالات التجارية، ومنتجي مواد البناء، وشركات قطاعات الخدمات التي تقدم بشكل حصري، وغيرهم ممن يتمتعون بقيود قانونية تحميهم من دخول المنافسين. هذه الجوانب كلها تقع في جانب العرض من الاقتصاد، والذي يتطلب جهودا مماثلة وموازية لإصلاح هذه الجانب، ليس من خلال حفزه ماديا، ولكن من خلال إصلاح التشريعات فيه، بما يؤدي إلى الحد من الأنشطة الريعية، وبما يضمن حصول المواطن على السلعة أو الخدمة بتكلفة معقولة تتناسب مع المخاطر التي تحملها المنتج أو مقدم الخدمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي